المعركة-فصلية
خلف العدو دائماً ولا اشتباك إلا معه....

Categories

الصفحة الأساسية > 4.0 العملانيات > طوفان الأقصى > معركة طوفان الأقصى والأمن القومي العربي

24 شباط (فبراير) 2024

معركة طوفان الأقصى والأمن القومي العربي

إعداد: د.نادية مصطفى

الأمن القومي الحقيقي هو تجلي القوة العادلة في الداخل والخارج؛ هو تجلي قوة الداخل وكرامته واستقلاله المرئية من الخارج، الأمن القومي الحقيقي حماية الوطن والمواطن في الداخل، وكذلك في الخارج بالانفتاح والمبادرة وليس بالتقوقع. حماية الأمن القومي تفترض عدم الاندفاع في مغامرات خارجية غير محسوبة أو غير معدٍّ لها جيدا. ولكن حين العجز عن أداء هذه الواجبات والدفاع عن الأمن القومي يثور السؤال: أهذا من قصور في القوة…؟ إذًا فلماذا التهاون في إعدادها…؟ إن بعض العجز لا يمكن تبريره ولا قبوله أمرا واقعا. إن العجز يفرض العمل للخروج منه، إنه حالة ضرورة تؤقت بوقتها، ويجب الإعداد والعمل على الخروج منها إلى حال القدرة والاستطاعة.
عن مصطلح الأمن القومي:

“الأمن”، “القومي”، هاتان الكلمتان تشكلان مصطلحًا مركزيـًّا في لغة السياسة الواقعية؛ وهو مصطلح مقترن بمنظومة وشبكة مصطلحات أخرى لصيقة بها؛ أهمها مصطلحات: “الدولة القومية”، “المصلحة القومية”، “القوة القومية”. وهي منظومة تنطلق من حقيقة ما يعرف بالدولة القومية. ويفهم البعض هذه المنظومة، ويفسِّرها، ويوظِّفها بطريقة تختلف عن فهم وتفسير وتوظيف آخرين تبعًا لحالة القوة وللمنظور الذي يتبناه كل فريق. وهذه المنظومة لمفاهيم الأمن القومي إما أن تكون ضمن حالة صراع وحرب، وإما أن تكون ضمن حالة سلام وتعاون.

فنجد مثلا أنه عندما تتحدث الولايات المتحدة الأمريكية عن الأمن القومي الأمريكي والمصلحة القومية الأمريكية وحدودها، فهذا ليس مثلما تتحدث الدولة المصرية عن الأمن القومي المصري والمصلحة القومية المصرية وحدودها. نعم القوي والضعيف -على حد سواء- يستخدمون هذه المنظومة من المصطلحات، لكن في سياقات وظروف مختلفة، فتنتج دلالات وتوجهات مختلفة. ومن ثم فإن أغراض الاستخدام مختلفة غالبا؛ فالقوة الكبرى حين تتكلم عن امتداد نفوذها، وتحركها عبر العالم بأدوات مختلفة ثقافية وسياسية واقتصادية وعسكرية تتحدث أيضا عن حماية أمنها القومي، وهي في أحيان أخرى تستدعي المفهوم نفسه وهي تتحدث عن سياسات وإجراءات ذات انعكاسات على الداخل؛ مثل “سياسات الباتريوت آكت” Patriot Act مثلا في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر؛ فإنها كانت تتحدث أيضًا عن الأمن القومي.

- أوجه تناول الأمن القومي:

إذًا الوجه الأول في مسألة حفظ الأمن القومي؛ أنه يتحقق وفقًا للتوصيف والتشخيص الذي يقوم به من يتولون تحديد ماهية الأمن القومي؛ وفقًا للظروف، وفي نطاق من الأعمال: إما خارجي، أو داخلي. في النطاق الخارجي، قد تظهر “أعمال توسعية”، وفي نطاق داخلي قد تظهر “أعمال احترازية أو تقييدية أو عقابية”. ومن المؤسف أن نجد مثل ذلك التقسيم، فضعاف القلوب وضعيفو القوة يتقوقعون على دواخلهم، ويبررون عجزهم عن اتخاذ سياسات خارجية نشطة؛ متذرعين ومعتذرين بادعاء حفظ “الأمن القومي”، وأيضًا حين يزيد تسلطهم الداخلي؛ تزداد إجراءاتهم التقييدية لمواطنيهم، أيضًا تحت شعار “الحفاظ على الأمن القومي”.

من ناحية أخرى، هذا الأمن القومي -الذي يحدده الاستراتيجيون بأنه: أمن الدولة في حدودها، وحمايتها من التهديدات التي تتعرض لها بكافة الأدوات المختلفة- هذا الأمن القومي أضحى يوظَّف لصالح أمن عالمي أو دولي أكبر. هذا الأمر أساسي: إننا في دائرتنا العربية نعاني من سطوة الاستكبار العالمي، الذي ضربنا ويضربنا في عالمنا العربي والاسلامي على الأقل خلال العقود الثلاثة الماضية، وبأدوات مختلفة تحت اسم “حماية الأمن الدولي والقومي من خطر الإرهاب”؛ فتتم مماهاة الأمن القومي بما يسمى الأمن العالمي؛ ويجعل الكبار أو المستكبرون أمنهم هو أمن العالم، ومفهومهم عن الأمن القومي أو العالمي هو المفهوم السائد في كلتا الدائرتين (العالمية والقومية).

أما الوجه الآخر للمسألة؛ فهو أننا نعيش في خلال العقود الثلاثة -أو ربما أكثر- حالة من تدهور وانحدار حضاري كبير في عالمنا العربي والإسلامي، تتمثل أساسًا في تزايد القيود التحكمية الداخلية وتزايد التبعية للخارج، وهي أيضا تحت أغلفة ما يسمى بـــ”حماية الأمن القومي”؛ مع ادعاء أن ذلك التحكم وهذه التبعية إنما هما حفاظ على الأمن والاستقرار من أجل التنمية، وأن التنمية لا تتحقق إلا بهذا النوع من الأمن والاستقرار، وأن التعاون العالمي هو أساس النهوض والتنمية والاستثمارات والأموال التي تأتي من كل مكان في العالم؛ تخرج من الخليج أو تأتي إليه، أو تأتي إلى دول مثل دولنا الفقيرة، وأن هذا هو سبيل التعاون الوحيد، وأن هذا يحتاج إلى أمن واستقرار سياسيين؛ لكن في الحقيقة وبالمعنى الأصح فإنه يحتاج إلى استسلام وخذلان.

إذًا، الأمن القومي في بعض الحالات يكون مرادفًا عمليًّا أو مبررًا خطابيًّا لاستكبار عالمي، لكي يخفي حقيقة الرغبة المستديمة في الهيمنة والتوسع العالميين. وفي حالة أخرى قد يكون خطاب هذا الأمن القومي ليس إلا قناعًا يُرتدى لتبرير الخذلان والضعف والتراجع، وعدم القدرة على المبادرة، وعدم القدرة على مواجهة العدو مواجهة صريحة؛ أو فلنقل: ستارًا للتعاون والتحالف مع هذا العدو!

- أبعاد الأمن القومي بين التقوقع والمجال الحيوي الخارجي:

إن الأوضاع الحالية في الأسابيع الأخيرة (الأسابيع الأولى من عملية طوفان الأقصى) تختبر بوضوح شديد ما أتحدث عنه، وتقدم الأمثلة الواضحة على ما أقوله، في حين أن هناك جانبين أو بُعدين آخرين لا يمكن أن نفهم ما أقوله بدون أن نستدعيهما:

البعد الأول: هو أن الأمن القومي لا يمكن أن يظل قاصرًا في حدود دولة قومية، حبيس جدرانها، ولا يخرج عن حدود دولته؛ سواء بالمبادرة لأغراض العدالة والانسانية أو لأغراض الهيمنة. ولذلك البعد عدة أشكال في الخبرة الغربية التي انطلقت من الحداثة والتنوير والرأسمالية؛ ومما يسمى المركزية الغربية أو مهمة الرجل الأبيض. وهذا الأمر المتصل بالخروج خارج الحدود السياسية للدولة هو ذو طابع هيمني، ذو طابع إمبريالي واستغلالي، ليس باسم الأمن القومي بالمعنى التقليدي فقط؛ لكن أيضًا بمعنى الأمن الرأسمالي العالمي، والأمن العسكري العالمي أو بالأحرى: الغربي.

البعد الثاني: في حالة الدول المستضعفة، من الواضح أن عدم خروجها من حدودها لتخدم أمنها القومي هو واحد من أهم أسباب ضعفها، وأن الأمة العربية قوتها -كما يقول تاريخها حين كانت أمة واحدة في سياق دولة واحدة أو عدة دول- ظلت في حراك أهلي بيني مستمر بدون حدود دول قومية، وعاشت وفق معايير مرجعية تحدد مفهوما مختلفا للأمن يقترن بالإيمان وبالنصرة والنجدة والتكافل.. وبكثير من القيم التي تميز المسلم فردًا أو جماعة أو دولة عن نظائره. هكذا يقول لنا التاريخ حين كنا أقوياء، وهكذا يقول لنا التاريخ: لماذا ضعفنا؟ وهكذا يوضح لنا التاريخ: ما حالنا الآن؟

جاء تقوقع الدول العربية والإسلامية داخل حدودها بعد الاستقلال عن الاستعمار، وتجزؤ الامتداد والكيان الكبير للأمة في شكل دول قومية أو ما يسمى دول حديثة الاستقلال؛ أي في صورة دول وكيانات مجزأة. هذه الكيانات ظلت بالتدريج تستشعر ضعفها ودونيتها، وتحاول -عبر خمسين أو ستين عاما حتى الآن- أن تستشعر بنوع من النصر والاستقلال والوحدة (وفق شعارات بعض قادتها وزعمائها الكارزميين الذين ألقوا بها إلى التهلكة)، لكن في فراغات، وبدون استعدادات حقيقية، وبدون قواعد أو أسس علمية لتحقيق شروط الأمن القومي والنصر والاستقلال، حتى انهار المعبد على رؤوس أصحابه، بفرض حسن النية. فللأسف لم ترتبط هذه الشعارات بالأخذ بالأسباب؛ وأهم هذه الأسباب هو: إطلاق الحريات، وتعزيز الإيمان، إنما الذي حصل هو التمسك بالتسلط. وهكذا كلما تجزأت هذه الكيانات تحت وطأة ما يسمى الدولة القومية والمصالح القومية الضيقة، وتحت ضغوط وقيود ما يسمى بالقوة القومية، كلما زادت أزماتها وتعمق عجزها واستمر الخذلان بينها.

وتاريخ مصر -دائما وعبر العصور- يبين أنها لم تخرج معتدية من حدودها -بفرض أنها كانت دولة قديمة- ولكن حين خرجت كانت تحمي جوارها؛ فتحمي أمنها هي أيضا؛ تحمي جوارها من أعدائها المتربصين خارج فضائها الحضاري؛ سواء من الشرق أو الجنوب أو الشمال، ولعبت قوى إسلامية عديدة عبر العصور أدوار هذه الحماية. إذًا فإن كثيرا من عناصر ومكونات الأمن القومي لمصر بصفة خاصة -وأنا أتكلم عن هذا- يقع خارج حدودها؛ يقع في حماية منابع المياه في الجنوب، وفي حماية الصحراء المكشوفة شرقًا، وفي حماية شمالي مصر أي البحار الممتدة، وفي غربها أيضا عبر الصحاري الممتدة… وهكذا.

- الأمن القومي والأمن الإنساني وطوفان الأقصى:

في البعد الثاني الذي أشرت إليه يأتي مفهوم ما يسمى “الأمن الإنساني”. “الأمن الإنساني” مفهوم برز من الاتجاهات النقدية للمدرسة الواقعية، على اعتبار أن أمن الأرض والإقليم والسلطة لا يجب أن يكون متعارضًا أو متناقضًا مع “أمن الناس” التي تعيش فوق هذه الأرض، وتحت حكم هذه السلطة، وفي ظل تلك السيادة. هذا الوصول إلى مفهوم الأمن الانساني يعني ضمنيًا أن مفهوم الأمن القومي التقليدي كان ممكنا أن يضحي داخليًا أو خارجيًا بأمن الإنسان. ومن ثم فالمقصود بالأمن الإنساني هو: أمن التعليم، وأمن الصحة، وأمن الثقافة، وأمن الهوية، وأمن الديانة، والأمن على الحياة، والأمن من الجوع، والأمن من التعصب؛ يعني الأمن ضد كل ما هو يهدد الإنسان كرامةً وقيمةً ووجودًا، وطبعًا حفظ قيمة الإنسان؛ أي إنسان؛ أيا ما كان دينه أو لونه أو عرقه. وهذا معتبر جدًا في قرآننا وفي تقاليدنا الحضارية، ولكنه مرتبط أيضا بالإيمان؛ فالأمن والإيمان لصيقان في الرؤية الإسلامية، ولكن في الرؤى الأخرى يقترن الأمن –من غير الإيمان- بالمعايير المادية وحدها.

لذا؛ إذا رأينا نموذج طوفان الأقصى وصمود غزة -هذا الشعب الذي يُـحرق الآن حرقًا أمام العالم كله، ويباد ويجوَّع ويحاصر، ويقتل جميع فئاته أمام أعين العالم- يتساءل الأمنيون: كيف يصبر هؤلاء؟ كيف يصمدون؟ كيف يثابرون؟ كيف تستمر المقاومة في أداء دورها وهي ترى حاضنتها يحدث لها ما يحدث؟ إنها تُدمر ويُعصف بأمنها الإنساني وفق المصطلحات المتداولة. كيف يصبرون وهم لا يجدون عونًا ماديًا عربيًا ولا غربيًا؟ نعم يوجد عون عالمي قيمي وإنساني قد يستخف به البعض، ولكن هذه الأمواج من البشر في كل عواصم العالم التي تخرج تؤيد فلسطين وخاصة أهل غزة وتدعو لنصرتها، ماذا تعني؟ إنها مدد، إنها قوة معنوية، وفوق كل هذا هناك المدد من الله تعالى.

هذا النموذج الغزاوي -مقاومته وحاضنته- يصدِّر الآن مفهومًا للأمن الإنساني والحضاري يفوق كل ما يستطيع منظّر واقعي براجماتي مادي أن يتصوره، منطلقات إيمان بقضية ذات ثوابت وركائز إيمانية، جهاد مستمر، ثبات وقدرة على تحمل الألم. إنها ليست مزايدة من جانبي.. ولكني أصف ما أراه، وأقرأ عنه. الأمن الإنساني ليس حقا فقط، الأمن الإنساني هو أيضًا وبالأساس واجب، واجب على أصحاب القضية أن يتحملوا نوائب نقصانه، لا أن يظلوا يطالبون بحقوقهم فيه من الداخل أو من الخارج فقط.

وأمن المجتمعات من الأمن القومي والإنساني: إن أمن النظم والحكومات لا ينفصل عن أمن مجتمعاتها، وقوة المجتمعات هي قوة للنظم وللدول، وإذا فرطت نظم وحكومات في قوة مجتمعاتها قصدًا وعمدًا؛ فإنما لتتمكن من السيطرة عليها أكثر. وهذا ليس فيه حماية لها، إن النظم والحكومات إذا تخاذلت في الرد على عدو للأمة يعتدي على جار لها أو بالأحرى جزء منها باعتبار الأمر جسدًا واحدًا؛ فإنما هي تعد نفسها لأن تكون الضحية التالية، وتضعف أمنها القومي والإنساني والحضاري إضعافًا شديدًا.

- التخاذل بدعوي الأمن القومي:

ولكن: ما تفسير مشهد خذلان وتقاعس الدول العربية عن أن تمد يد العون الفعلي -وليس القولي- لشعب غزة ولا أقول لمقاومتها. إلام يرجع هذا المشهد؟ هل يرجع لقناعة بأنه التدخل سيثير غضب العدو على الأنظمة فيتهدد أمنها الخاص بها والذي تسميه بالأمن القومي؟، أم لأنها غير راغبة في تقديم النصرة أصلا؛ لأنها ترى في هذا التخاذل حماية لأمنها القومي من عدو آخر ليس هو العدو الصهيوني؛ ولكن المقاومة الفلسطينية وبالأخص حركة حماس؛ بما تمثله من رمزية ومن قيم تعرضت للضرب والانتهاك من الدول العربية خلال العقد الماضي؟ لماذا يتخاذلون ويتقاعسون؟ هل خوفًا على الإنجازات التي تحققت خلال عقد؟ أم خوفًا من المؤامرات الغربية؟ أم ماذا؟ العجيب أن هذا الأمن القومي المدعى؛ إنما هو محميٌّ ومدعوم من مثل هذه القوى الغربية التي تتهمها أقلام وألسنة بأنها تتآمر علينا.

ما يمثل أمامي الآن في الحرب الدائرة على غزة: منازل مهدمة، وغزاويون بأيديهم المجردة يحاولون إخراج من يستطيعون إخراجه من ضحايا آخر غارة إسرائيلية، وتتوالى المجاز في الأسبوعين الأخيرين بشكل غير معقول. في إطار هذا المشهد: عن أي أمن قومي عربي أو وطني نتحدث، وهذا الأمن الإنساني منتهك إلى هذه الدرجة؟! ليس منتهكًا مما يسمى العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل (والذي يصفه بعد القادة العرب بأنه حق دفاع عن النفس لكنه فقط تجاوز حدَّه)، لكنه منتهك بالأحرى من الخذلان وعدم النصرة ومن العجز العربي الكبير. فهل نُعلن موت العرب وموت قوة العرب؟ نعم، نعلن موت قوة العرب، وأنه أكل الثور الأبيض يوم أكل الثور الأسود.

- كيف تتحدد ماهية الأمن القومي في ظلال طوفان الأقصى: من هو العدو؟

من النقاط الأخرى أيضا التي تكون معيارًا وفيصلًا في الحكم على ماهية الأمن القومي لأي دولة أو إقليم إجابتها عن سؤال: من هو العدو؟ وهل تعلن صراحة وعلنًا من هو العدو؟ وبالتالي، على ضوء هذا الإعلان تتحدد المواقف والرؤية في مواضع معينة؛ وبالتالي يتحدد توجه مصادر حماية الأمن القومي: لـــمن على حساب من؟ وضد من؟ وكيف؟

وفيما يتصل بالأزمة الحالية إذا أردنا بحث أمنننا القومي وتصوره عن العدو، نجده كالتالي:

الأمر الأول: منذ 2013؛ لم يعد واضحًا في الدول العربية هل هذا العدو هو إسرائيل أم هو الإرهاب في الداخل أم دولة عربية أو إقليمية أخرى؟ وبالتالي؛ إذا كان المقصود بالعدو الإرهاب في الداخل فيمكن أن نفهم كل الإجراءات الداخلية والخارجية والخطابات الرسمية والإعلامية والإجراءات الموجهة لهذا المقصود بها مواجهة العدو الحالي؛ وهو “الإرهاب”، ومعروف ما المقصود بالإرهاب؛ إنه قوى المعارضة المرشحة لأن تكون بديلا.

الأمر الثاني: هو أين إسرائيل كعدو لنا؟ لا يعلن قائد عربي إطلاقًا أنها عدو، وطوال العقد الماضي، وفي التصريحات الرسمية خلال الأزمة القائمة، تكشف أن إدراك أكثر النظم ووعيها قائم على أساس أن: إسرائيل ليست العدو، وليست مصدر الخطر أو التهديد. وليس أدل على هذا من حديث بعض القادة عن دفاع إسرائيل عن نفسها. وحين ضربت إحدى المواقع المصرية واعتذرت إسرائيل قال خبراء عسكريون نحن نتحدث عن “حدود سلام” لا حرب؛ يعني -برغم كل ما يحدث على الجانب الآخر من رفح وضد الشعب الفلسطيني- يظل هناك سلام لا يمكن التحدث عنه، ويظل الحديث عن أن إسرائيل ليست العدو وليست تهديدًا للأمن القومي المصري، بل إنه إذا انتقل الفلسطينيون إلى سيناء سيقومون بأعمال (إرهابية) ضد إسرائيل، وستضطر إسرائيل للرد بما قد يفسد هذا السلام القائم معها. هذه الرؤية والمنظومة تأكدت وتجلت في كثير من المناسبات وبخطابات مختلفة.
الفجوة بين الأنظمة والشعوب حول الأمن القومي في ظلال طوفان الأقصى:

إذًا، الأمن القومي يجب أن يكون له عدو محدد حتى لا تُــثار الجدالات -التي بلا فائدة- حول طبيعته وإجراءاته؛ وبالتالي فإذا كانت الشعوب العربية في جانب مع المقاومة، والنظم العربية في جانب آخر؛ فهذا يعني أن مفهوم الشعوب لمصدر تهديدها، وللعدو الرئيسي لها، مختلف عن مفهوم نظمها. وطبعا مفهوم نظمها هو مفهوم علوي أي مفروض من أعلى، وليس هو المفهوم الطبيعي الحضاري للأمن القومي الإنساني؛ لا بحكم التاريخ ولا الجغرافيا ولا الدين ولا التقاليد، ولا حتى المصالح طويلة الأجل للشعوب، إنما هو حكم المصالح قصيرة الأجل! هذا لأن مآل الشعوب -في ظل سيطرة صهيونية وإسرائيلية- هو ضياع أمنها الإنساني والحضاري تمامًا، وخاصة أمنها العقدي والديني والثقافي، ووعيها بتاريخها وبتراثها ووجودها، وخاصة بقضية القدس والمسجد الأقصى.

إنها الفجوة بين مفهومين للأمن القومي؛ من حيث مصادر تهديده، وكيفية الدفاع عنه، وأنها تختلف تمامًا فيما بين الشعوب العربية وبين نظمها. ومن هنا تأتي الحملات التضليلية للوعي الجمعي للإنسان العادي، ولا أقول المثقف، من خلال الأجهزة الإعلامية التي تبرز أن هناك تأييدا للفلسطينيين وتأييدا للمقاومة، وحزنا وأسى على ما يحدث بفلسطين، والدور القيادي للأنظمة، في حين أن واقع السياسات والخطابات هو اللا شيء من حيث الفعل الملموس ضد الاعتداء على شعب أخ شقيق يجمعنا به مشترك ثقافي وحضاري وليس مجرد جارٍ غريب؛ ضد عدو كان –ولا يزال- عدوًا مشتركا لنا. تخلت الأنظمة عن هذا العداء منذ زمن وتباعا، وهرولت نحو التطبيع تحت مبررات وذرائع مصلحية آنية وأنانية؛ ولكن أكثرها كان بدعوى حماية الأمن القومي والسلام والاستقرار الإقليمي.

إذًا ما أتحدث عنه هو: من يحدد مفهوم الأمن القومي؟ ومن يحدد العدو وكيفية مواجهته؟ وكيف؟ ولماذا؟

لقد كشفت معركة طوفان الأقصى الفجوة ما بين وعي الشعوب وبين المدرك المقصود والإرادي من جانب النظم القائمة لهذا العدو وطبيعته. هذا، وتلعب الأجهزة الإعلامية فيه دورًا موجهًا للوعي العام. ويتضح منه للمراقب أن هناك فجوة كبيرة بين ما يقوله الإعلام العربي وبين الخطابات الرسمية، وبين ما تشعر به الشعوب العاجزة عن التعبير عن مكنونها في مظاهرات عارمة، كما يفعل نظراؤهم في العالم الغربي والعالم الإسلامي؛ وبالأخص العالم الغربي الذي تموج شوارعه بمظاهرات غير مسبوقة لا تقارن بما خرج خلال العشرة أيام الأولى من العدوان. ومن هنا تأتي فائدة وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي تكشف عن إدراكنا أن سياسات وخطابات زعماء العرب ليست على المستوى المطلوب، وتقدم ردود الفعل تجاه مؤتمر القمة المشتركة العربية والإسلامية في الرياض السبت 11 نوفمبر الماضي نموذجا دالا على هذه الفجوة التي تتسع كل يوم.

قد يقول قائل عن رؤيتي -عن هذه الفجوة- إن هناك حالات كثيرة في العالم الآن وغيرها شهدت قيام علاقات دبلوماسية واعتراف دبلوماسي كامل بين الطرفين، وتبادل معاملات من كل الأنواع والاتفاقات والمعاهدات، ولكن يظل بعضهما لبعض عدو، ويعلن ذلك في وثائق استراتيجيات الأمن القومي لهما، كما هو الحال بين أمريكا وروسيا مثلا. ولكن الفارق كبير جدًّا بين أن تقيم دولنا علاقات دبلوماسية وتطبيعًا وتعاونًا مع إسرائيل؛ وتجعل خيارها الاستراتيجي هو السلام فقط، وهي تواجه عدوًا لا يحترم السلام ويستمر في انتهاك اتفاقياته طيلة 50 عامًا.

ومن ناحية أخرى، أنا لا أتحدث عن امتلاك عناصر القوة فقط؛ فهناك أيضًا فارق بين امتلاك عناصر القوة -ونحن لدينا الكثير والكثير منها- وبين إعدادها لتكون في خدمة إدارة الصراع والاستقلال والهيبة والمكانة الدولية، في مواجهة الجميع؛ وخاصة العدو، حتى لو كان بيننا وبينه معادة سلام. وفي هذه الحالة لا تعني حماية الأمن القومي إعلان حرب على طرف لمجرد أي شيء، ولكن القدرة على الردع، والقدرة على توجيه النقد، وتوجيه الاتهام، ورفض السياسات، والقدرة على استخدام أدوات قوة عديدة للتأثير ولإدارة الصراع مع العدو حول القضايا المصيرية؛ وفلسطين بالنسبة للعرب قضية مصيرية، وغزة بالنسبة لمصر قضية أمن قومي بالدرجة الأولى. ولا يمكن خدمة الأمن القومي باتخاذ موقف سلبي؛ منها تحت أي دعاوى كانت. وحتى بفرض أن هناك واقعًا مفروضًا بعلاقات واعتراف وتطبيع دبلوماسي؛ لكن هل أعددنا القوة الكافية واللازمة لتكون في خدمة إدارة الصراع والاستقلال والهيبة والمكانة؟

بالتأكيد لدينا شكل من أشكال القوة، ولكن أين الإرادة لاستخدامها؟ وكيف نستخدمها. هذا الجمع بين القدرة والإرادة هو جزء مهم من عناصر تشكيل مفهومنا عن أمننا القومي، وكيفية التعامل مع مصادر تهديده وبناء وتفعيل استراتيجيات حمايته.

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

5 من الزوار الآن

876803 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق