المعركة-فصلية
خلف العدو دائماً ولا اشتباك إلا معه....

Categories

الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة من الداخل (الحلقة الثانية)

تاريخيــة ظاهــرة الثـورة الفلســطينية

13 أيلول (سبتمبر) 2018

الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة من الداخل (الحلقة الثانية)

د.اكرم حجازي

عقدة الهوية بين الطمس والإحياء

قابل قيام الدولة اليهودية ، التي استجمعت كافة أفرادها من شتى بقاع الأرض، وبنت مجتمعاً هجيناً ملطخاً بثقافات متعددة تنسب نفسها إلى تراث ديني وألوهي مزعوم، اختفاء مجتمع مندمج عبر قرون عدة متصلة تهاوى في أماكن متفرقة بحيث أن المسألة لم تعد تتصل بانهيار نسق اجتماعي يمكن إعادة بناءه ولا بتحطيم نسيج اجتماعي، بل هو اندثار لكليهما حتى أنه لم يعد ثمة وجود لا لتركيبة اجتماعية ولا لتركيبة جغرافية. وبوصفها الفاعل الإستراتيجي الأهم في هذه المرحلة باشرت الشرائح المتنفذة في « مجتمع النكبة » حراكاً سياسياً نشطاً اتسم بشيوع الانقسامات السياسية وتوزع للولاءات في مستوى النخبة جراء طغيان سياسات التدخل العربية لاسيما في الأقطار المجاورة التي استهدفت الاحتواء الفوري لآثار النكبة كيما تتمكن من الانصراف إلى قضاياها الداخلية أو الخارجية دونما عوائق. وكان لهذا التدخل أثر مباشر وحاسم في انفجار الصراع السياسي العلني فيما بين تشكيلات القيادة في الحركة الوطنية الفلسطينية القائمة أساساً على شرعية النفوذ الديني و(أو) العائلي. ولم يكن للصراع سوى وجهة واحدة، الاحتفاظ بالسلطة، بين مهيمن عليها أو ساعٍ لها. وكانت نتائج هذا الصراع مدمرة في وقت ما تزال فيه حشود اللاجئين تبحث عن مأوى أو تستوطن الخيام أو يفتك بها الجوع والمرض. إذ لم يعد بوسع الفلسطينيين أن يفعلوا شيء في ظل « غياب قيادة فلسطينية مسؤولة» والتفكك التدريجي المضطرد للحركة الوطنية الفلسطينية الذي اتسم بتجاهل سياسي عربي للقيادة التقليدية أو بتسليم طوعي أو قسري، للأمر الواقع. أي الاعتراف السلبي أو الإيجابي بالقيادات التقليدية الجديدة التي نجحت في إضعاف خصومها التاريخيين. أما في مستوى المؤسسات كالهيئة العربية العليا أو حكومة عموم فلسطين فقد تحولت إلى مجرد مكاتب إدارية في مقر جامعة الدول العربية .

وإجمالاً كانت الخسارة التي تعرضت لها القضية الفلسطينية أشد قسوة. إذ نجحت الأمم المتحدة والدول الكبرى ووكالة الغوث في إلغاء أي وجود سياسي أو قانوني دولي بعد أن أُسقطت « القضية الفلسطينية»، كبند مستقل، من على جدول الأعمال السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1953 واكتفي بمناقشة « مشكلة اللاجئين» باعتبار أن لهم حقوقاً اقتصادية واجتماعية وليس حقوقاً سياسية. وحتى عربياً لم تعد القضية الفلسطينية تناقش إلا كذلك. وكما لو أنه لم يكن، في يوم ما، أمة أو مجتمع قائم في فلسطين منذ قرون وقرون. وكان لهذا التطور على القضية الفلسطينية أن جرد نحو 900 ألف فلسطيني، طردوا أو هُجّروا، من هويتهم السياسية وتراثهم وحضارتهم.
وفيما بين سنتي1953- حزيران1964 كانت الهوية الفلسطينية قد اختفت. وتسبب هذا الاختفاء بذعر بين اللاجئين الذين لمسوا موقفاً متعاطفاً ومناصراً لهم من قبل الشعوب العربية فيما كانت أجهزة السلطة على النقيض من ذلك. و« حتى كلمة " فلسطين" حرّمتها بعض الأنظمة العربية، واعتبر تردادها، ولو من قبيل التعريف عن الهوية، استفزازاً للنظام يستحق العقوبة و " التأديب" ... ومنذ ذلك الحين أصبحت كلمة " لاجئ " أبغض كلمة في قاموس اللغة العربية على قلب الإنسان الفلسطيني لما أضحت توحي به من معاني القهر والسحق والإذلال». ولم يشعر اللاجئون آنذاك بعبء الهوية الفلسطينية في البلدان العربية مثلما شعر به اللاجئون في لبنان حيث بلغ الاضطهاد السياسي مداه، واشتمل على سلوكيات بوليسية قمعية شديدة ونظرة تحقيرية بالغة شارك في الترويج لها بين المواطنين اللبنانيين قوى سياسية واجتماعية ( جهدت في نزع الآدمية عن « الجسد» الفلسطيني ). وقد ولدَّت هذه السياسة في الدول العربية عموماً وفي لبنان خصوصاً « مشاعر مريرة في نفس الفلسطيني التائه، من بعض جوانبها عقدة الإحساس بالاضطهاد » والتي ما زالت تلازمه حتى الآن.

إذن، ومثلما كان المناخ السائد غداة النكبة، وخلال العقد الأول منها، يعبر عن قلق اجتماعي فقد عبر في الوقت نفسه عن قلق سياسي متنام تمثل في اختراق الحراك السياسي للتشكيلات الاجتماعية كافة لاسيما الطلبة والمثقفين منها، وليس لشرائح النخبة فحسب. ولما كان محظوراً على الفلسطينيين ممارسة أو تنظيم أي نشاط سياسي في الدول العربية فقد اتجه هؤلاء إلى ولوج النافذة الوحيدة المتاحة فاندرجوا في الأحزاب السياسية العربية مفضلين منها الأكثر قرباً لقضيتهم أو تعبيراً عن آمالهم وطموحاتهم، فتنقلوا بين الحركات الدينية كجماعة « الإخوان المسلمين» أو الأحزاب القومية كحركة القوميين العرب وأحزاب البعث وحتى بين الأحزاب اليسارية كالأحزاب الشيوعية وذات التوجه الاشتراكي فضلاً عن التنظيمات السرية كحركة « فتح» أو العلنية كالمؤسسات النقابية والإعلامية والعلمية والتعليمية.

وفي خضم المد القومي الجارف لاسيما بعد فشل الحملة العسكرية الإسرائيلية الفرنسية البريطانية على مصر سنة 1956 على خلفية تأميم قناة السويس ثم إعلان دولة الوحدة بين مصر وسوريا، ولدت فكرة « الكيان الفلسطيني» الذي عبرت عن بذوره الأولى حركة « فتح» في شهر تشرين أول أكتوبر سنة 1959من على صفحات مجلة « فلسطيننا» الناطقة باسمها حين دعت إلى دور خاص ومتميز للفلسطينيين وإلى استغلال العمل الوطني الفلسطيني في إطار النضال العربي الشامل. غير أن الرسمية العربية كانت قد سبقتها في الكشف عن هوية هذا الدور الخاص لما تبنى مجلس جامعة الدول العربية في دورته الحادية والثلاثين 9 آذار/ مارس سنة 1959عدة قرارات مفاجئة تتعلق بالشعب الفلسطيني جرى تبنيها إثر توصية قدمها وفد الجمهورية العربية المتحدة نص القرار الأول منها على: « إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعباً موحداً لا مجرد لاجئين يسمع العالم صوته في المجال القومي وعلى الصعيد الدولي بواسطة ممثلين يختارهم ».

وعبر صيرورة أيديولوجية صدرت في سلسلة من المقالات في مجلة « فلسطيننا» تطور محتوى الكيان على نحو واضح. إلا أن دعماً مصرياً خاصاً هو الذي أدى إلى بعثه للوجود سنة 1964 في إطار مؤسسي عرف مذاك بـ « منظمة التحرير الفلسطينية » (م. ت. ف/ المنظمة / المركزية الفلسطينية). وفي أعقاب المؤتمر التأسيسي للمجلس الوطني الفلسطيني الأول الذي عقد في القدس ما بين 26/5 – 2/6 صدر الميثاق القومي الفلسطيني والنظام الأساسي للمنظمة والنظام الأساسي للصندوق القومي، وانتخب أحمد الشقيري رئيساً للمؤتمر منذ الجلسة الأولى وفيما بعد رئاسة اللجنة التنفيذية للمنظمة التي أعلنت ولادتها في المؤتمر.

ومن المهم التركيز على موقف القوى السياسية الفلسطينية من بعث الكيان. ونخص بالذكر، موقف ما أسماه مؤسس الكيان بـ « المنظمات الفدائية». فاللحظة التي ولدت فيها فكرة الكيان كانت لحظة صعود القومية العربية وفي نفس الوقت، وهنا المفارقة، لحظة انكفاء نحو « الفلسطينية» خاصة بعد انهيار دولة الوحدة. وتجسد الانكفاء في بضعة سنوات لاحقة على ظهور عدد كبير من المنظمات الفلسطينية غير أن موقف المنظمات اتسم بالتحفظ إزاء بعث الكيان حتى وإن تباينت الدوافع والغايات. فلم تعارض أية منظمة تأسيس الكيان، ولكن أيا منها لم تحضر المؤتمر التأسيسي ولا المؤتمرات اللاحقة للمجلس الوطني الفلسطيني إلا بصفة فردية وليس بصفة تنظيمية. وفقط ، في الدورة الرابعة للمجلس التي عقدت ما بين10-17/7/1968في القاهرة، بعيد استقالة (أو إقالة)أحمد الشقيري ذهبت المنظمات الفدائية للمشاركة ليس « للبحث في مسألة الكيان وإنما المدخل الأساسي كان إيجاد أرض مشتركة للقاء منظمات المقاومة أو لما صار يعرف في الأدبيات الفلسطينية بالوحدة الفلسطينية أو بوحدة أداة الثورة » . وقد أصدرت حركة « فتح» بياناً سياسياً في 5/2/1969 لخصت فيه موقفها وموقف القوى السياسية الأخرى حول م. ت.ف. وجاء في البيان أنه: « كان أمامنا سبيلان لا ثالث لهما (الأول) أن نعتبر م. ت. ف. واحدة من التنظيمات القائمة ونطرح على إخواننا في الطلائع وفي الجبهة الشعبية أن تقوم بيننا وبينهم وبين منظمة التحرير جبهة وطنية على أساس من التكافؤ والمساواة ضمن برنامج عمل وطني محدد و(الثاني) أن نعتبر منظمة التحرير إطاراً يجمع داخله كافة التنظيمات الفلسطينية العاملة». ويتابع البيان: « كنا على استعداد أن نرضى بالسبيل الأول ونقدم له جهودنا، ولكن القائمين على أمر المنظمة رفضوا أن تكون المنظمة تنظيماً وتمسكوا بالميثاق الوطني الذي ينص على أنها جبهة وطنية للجميع. وبناءً عليه قررت الحركة الاستجابة لنداء اللجنة التنفيذية والدخول إلى المجلس الوطني باعتباره أرضاً مشتركة » . هذا البيان جاء ليبرر، فيما بعد، دخول حركة « فتح» إلى المجلس الوطني، ومن ثم تسلم المنظمات لقيادة م. ت. ف.
ومن الواضح أن صيغة البيان تنم عن خلافات بين المنظمات مثلما تنم عن اتفاق بضرورة البحث عن « أرض مشتركة». غير أن هذه « الأرض» لم تكن ملائمة للنشاط الفدائي بسبب اختلاف المنطلقات الفكرية والأيديولوجية فيما بين المنظمة والمنظمات الفدائية من جهة وفيما بين المنظمات إياها من جهة ثانية أو لأسباب أخرى. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى التراجع المضطرد في « العمل الفدائي »  ضد إسرائيل وانحسار التأييد الشعبي وصولاً إلى خسارة الأردن ساحة العمل الرئيس لشعار الكفاح المسلح وحظر العمل الفدائي انطلاقاً من الأراضي السورية وأخيراً التقوقع في لبنان. وهناك انفجرت الأزمة وتعرى الفكر السياسي والأيديولوجي عبر سلسلة طويلة من الحوارات بين القيادات الفلسطينية ومفكري الثورة الفلسطينية والعرب أو عبر المقالات فضلاً عن الكتب والنشريات الكثيفة. وشهدت السنوات الأولى من السبعينات، عقب الخروج من الأردن، طفرة من الأفكار في صيغ مختلفة، على صفحات مجلة شؤون فلسطينية في محاولة للخروج من الأزمة التي هزت كل الجسم الفلسطيني السياسي والأيديولوجي والعسكري والتنظيمي ولكن دون جدوى، حتى وصل الأمر في البعض إلى الدعوة الصريحة « نحو ثورة فلسطينية جديدة» ، وثانيةً دون جدوى. وبدا أن الثورة الفلسطينية، انطلاقاً من العام 1974، ماضية في طريقها تحت سقف الصراعات الأيديولوجية. الأمر الذي جعلها في موقف دفاعي عن الذات طوال عمرها خاصة بعد أن خضعت أيديولوجياتها لتأثيرات السياسات العربية والدولية.
ومن المفيد القول أن هذا الجزء سيعالج ثلاث مسائل كبرى تقع في الفترة ما بين سنتي 1948-1974، وهي على التوالي:
1. مسألة تعيين المجتمع الفلسطيني « مجتمع النكبة » في الفترة ما بين (1948-1967) أو « المجتمع المفقود ».
2. مسألة التكون التاريخي للمنظمات الفلسطينية.
3. مسألة تعيين المجتمع الذي توجه إليه الخطاب الأيديولوجي الفلسطيني خاصة بعد كارثة العام 1967 واحتلال ما تبقى من فلسطين أو « المجتمع المنشود ».
إننا بحاجة إلى تعيين « مجتمع النكبة » (المجتمع المفقود) لأن المنظمات الفدائية وجهت خطاباً أيديولوجياً إليه بهدف بناء « مجتمع الثورة » (المجتمع المنشود) دون أن تقدم أي تحليل علمي للنظام الاجتماعي الفلسطيني لا قبل النكبة ولا بعدها. كما أنها لم تقدم أي تبرير تاريخي أو حضاري لأيديولوجياتها المتغايرة. وحتى لا نستبق الأمور، لنطرح السؤالين التاليين على هذا الجزء:
• إلى أي مدى تتلاءم الأطروحات الأيديولوجية للمنظمات مع التركيب الاجتماعي لها، على الأقل لبعضها، وفي مستوى القيادة؟
• هل يمكن توقع تماثل بين مجتمع الثورة و المجتمع المعين ؟

المجتمــــع المفقــــود

هل ثمة وجود لـ « مجتمع فلسطيني»؟ بعد أن أجبر على خوض ديناميكية حادة وشاملة استهدفت ذاته الحضارية، وصار من المتعذر جداً ملاحظته ديمغرافياً وجغرافياً؟ وهل يمكن أن نعين مجتمعاً: « فقد، بعد النكبة، وحدته العضوية، وتغيرت صفاته كمجتمع بالمعنى الأكاديمي للمجتمع. فليس هناك ما يمكن تسميته بمجتمع فلسطيني في الوقت الحاضر لأن العناصر الأساسية الداخلية في التركيب النهائي للهيكل الاجتماعي العام، فقدت وظيفتها وتجمد نشاطها، ولم تعد الخلايا الاجتماعية الأولية متجانسة.. كما حالت الاعتبارات السياسية دون امتصاص اللاجئين اجتماعياً في البلدان المضيفة.. ودون إبراز كيان اجتماعي وسياسي للاجئين، وهكذا أصبح اللاجئون نتوءات بارزة في كيان المجتمعات العربية المحلية. نتوءات لا ترتكز على قاعدة ثابتة مما يجعلها معرضة للانهيار والتغير» ؟

إن هذه الفقرة تعبر عن واقع اجتماعي فلسطيني تقع تجلياته في الفترة الممتدة ما بين قيام الدولة اليهودية (1948) حتى (1965) وعشية حرب العام 1967 وفي غضون السنوات اللاحقة للحرب حتى مطلع السبعينات، ستكون هذه الفترة أسطع تعبيراً عن غياب مجتمع فلسطيني غياباً تاماً لاسيما وأن المجتمع الفلسطيني سيكون قد تعرض إلى هجرات قسرية كبرى خلال العقود الماضية سواء بفعل الحروب العدوانية أو بفعل الظروف الاقتصادية والاجتماعية بحيث يبدو تعيين المجتمع الفلسطيني أكثر تعقيداً من ذي قبل. ومع ذلك فالسؤال عن وجود المجتمع الفلسطيني لا ينفك يطرح نفسه. وثمة بواعث منهجية حاسمة تحكم بوجوب البحث والتقصي عن المجتمع حتى وإن كان نظرياً أو عملياً غير موجود، لأن المهم هو توفر رصيد معرفي يمَكن من إجراء مقارنة بين المجتمع الفلسطيني كما هو في الواقع الجديد مع المجتمع إياه الذي عبر عنه الفكر الثوري الفلسطيني خاصة في مرحلة تفجره خلال السنوات الفارقة بين أواخر الستينات وأوائل السبعينات. بمعنى أن البحث يتجه لإجراء مقاربة بين نموذجين لمجتمع واحد، أحدهما موجود في الواقع والآخر عبرت عنه الأيديولوجيا.

إذن، ينبغي التأكيد على أن أي جهد في السياق هو مقاربة مفتعلة ولكنها منهجية بما أن هدفها هو كشف الواقع الفلسطيني خلال الفترة المذكورة والتمهيد للقيام بمقارنات تخص كلا من الوجود الاجتماعي والتركيب الاجتماعي للفلسطينيين. وإلى أن يحين ذلك يبقى السؤال المركزي يتعلق في البحث عن مقاربة تساهم في تعيين المجتمع الفلسطيني وجمع شتاته.

المسألة الثانية:

التكون التاريخي لكبريات المنظمات الفدائية الفلسطينية
- التيار القومي – الماركسي
- التيار القومي البعثي
- التيار المستقل

حين البحث في الفكر السياسي والايديولوجي الفلسطيني، غالباً ما يقع ذلك في إطار الفترة الممتدة ما بين سنتي 1964-1974 كونها تميزت بأكثر من حدث سياسي وتاريخي غيرت مجرى الأحداث وتحكمت في حاضر ومستقبل المنطقة المسماة حالياً بـ «الشرق الأوسط». ففي سنة 1964 بعثت الهوية الفلسطينية من جديد في صيغة عربية أسميت منظمة التحرير الفلسطينية التي نادت، و بعدها المنظمات الفدائية، بتحرير فلسطين المغتصبة. وأمل الفلسطينيون والكثير من العرب شن حرب نظامية مفاجئة على إسرائيل فكانت النتيجة عكسية بأن فاجأت إسرائيل العرب واحتلت ما تبقى من فلسطين وصحراء سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية في حرب العام 1967. وهكذا فشلت الأيديولوجية العربية واندفعت المنظمات الفلسطينية لملء الفراغ فأعلنت حربا تحريرية على إسرائيل عنوانها « الكفاح المسلح »، وسيطرت المنظمات الفدائية على منظمة التحرير. إلا أن مواثيق المنظمة عجزت عن إفراز فكر ثوري يوحد المنظمات فبقيت الوحدة شكلية وكانت ولادة المزيد من المنظمات والدخول في مشاحنات أيديولوجية أبرز معالم الأزمة البنيوية التي تعيشها الثورة الفلسطينية بحيث بدت المنظمات بعد إقرار البرنامج المرحلي سنة1974 قانعة بما ستؤول إليه السياسة المرحلية من إفراغ للأيديولوجيا الفلسطينية من محتوياتها. لذا فإن البحث في تاريخية المنظمات الفدائية ستستهدف :

1. الكشف عن الامتدادات التنظيمية الأولى منذ النكبة والتعرف على الصيرورة الأيديولوجية لها وكيف أدت الصراعات الأيديولوجية إلى اندماج (بـ) أو انشقاق عدة منظمات (عن) منظمة واحدة، وهذا هو حال حركة القوميين العرب.
2. الكشف عن موقع الجماعات المؤسسة في التركيب الاجتماعي. وفي هذا المجال سنركز على اثنتين من أكبر الحركات الفدائية هما حركة « فتح» وحركة القوميين العرب.
ولكن بدء من سنة 1967، وإثر الهزيمة مباشرة، سنلحظ استقرارا لثلاثة تيارات أيديولوجية سيكون من غير المجدي، لما يحين أوان المسألة الثالثة، البحث عن مجتمع الثورة خارج إطارها. وهذه هي:

• التيار المستقل. وقد عبرت عنه بالتحديد حركة التحرير الوطني الفلسطيني « فتح».
• التيار القومي. وقد عبرت عنه اثنتين من المنظمات الفدائية التي بادر حزب البعث العربي الاشتراكي في كل من سوريا والعراق بتأسيسهما. وهما « جبهة التحرير العربية » و « طلائع حرب التحرير الشعبية - قوات الصاعقة - ».
• التيار الماركسي - اللينيني، والذي عبرت عنه كل المنظمات الفلسطينية الأخرى، وفي مقدمته « الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وقبلها « الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وفي وقت لاحق« الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة -» و « جبهة النضال الشعبي» و « جبهة التحرير الفلسطينية » ... الخ

الفصل الأول

التيــــار اليســــاري

(المنظمات الماركسية – اللينينية والبعثية)

أولا: حركة القوميين العرب-الصعود

 الصيغ التنظيمية الأولى

يُنظر إلى حركة القوميين العرب كمصدر أساسي في نشأة وترعرع حشد من المنظمات الفدائية الفلسطينية والعربية ذات الأيديولوجيات المختلفة. ويستثنى من هذا الحشد بعض المنظمات ذات المنشأ المستقل كحركة « فتح» والمنظمات التي ولدت من رحم حزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه العراقي والسوري. وتأتي نشأة الحركة القومية محصلة لتفاعل تاريخي انطلق من المشرق العربي متأثراً باضطراد في انتصار القوميات في أوروبا والسياسة الطورانية للامبراطورية العثمانية وأخيراً في التدخل الاستعماري الأجنبي في الوطن العربي الذي نتج عنه تفكيك وحدته إلى أجزاء إقليمية معبر عنها في صيغة دول مستقلة إلى أن بلغ ذروته في المشروع الصهيوني الكولونيالي في فلسطين. وقد مثل قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 ثم اغتصاب أكثر من ثلاثة أرباع مساحتها وتشريد نحو ثلثي سكانها المحددات الحاسمة في ولادة حركة القوميين العرب. بيد أن هذه الولادة القومية الشكل ما كانت إلا فلسطينية الهدف والجوهر بالرغم من اتساعها لتمتد إلى معظم الأقطار العربية. وما يؤكد ذلك الشعارات المركزية والأهداف التي لازمت الحركة منذ نشأتها في صيغ تنظيمية متعددة وحتى انقساماتها. ولنبدأ من أولى الأشكال التنظيمية.

1. « كتائب الفداء العربي-الكتائب»

إن عدم إقرار مؤسسي حركة القوميين العرب بعلاقتهم في « الكتائب» مسألة لم تعد تجدي منذ زمن بعيد، بعد أن كشف محسن إبراهيم أحد أعضاء اللجنة التنفيذية للحركة عن هذه العلاقة في كتابه « لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين؟» أما حزب البعث، ومن خلال عبد الفتاح الزلط، فقد اعتقد أن « الكتائب» كانت النواة التي بنت حركة القوميين العرب حولها تنظيمها. فمن هم المؤسسون؟ وماذا استهدفوا من وراء تأسيس « الكتائب» ؟
كانت « الكتائب» قبل اندماجها عبارة عن ثلاث مجموعات تجهل وجود بعضها البعض، وأن الصدفة هي التي لعبت دوراً في اكتشافها. وهذه المجموعات هي:

• مجموعة بيروت التي يعتبر جورج حبش (فلسطيني) وهاني الهندي (سوري ذو نشأة عراقية) أبرز مؤسسيها. وكان هؤلاء الاثنان زملاء دراسة في الجامعة الأميركية في بيروت.
• مجموعة جهاد ضاحي (سوري) التي تأسست في سوريا. وكان مؤسسها زميل دراسة لهاني الهندي في كلية حلب.
• مجموعة من اللاجئين السياسيين المصريين المحترفين وذوي التاريخ الحافل بالعنف، والذي لجئوا إلى سوريا وأقاموا فيها. ومن أبرزهم حسين توفيق وعبد القادر أمير ومصطفى كمال الصنفراوي وعبد الرحمن مرسي. وكانت المجموعة على صلة بالمخابرات السورية. وهي مؤيدة لوحدة ملكية بين العراق و سوريا وتَعتبر الشيشكلي معاديا للوحدة .

وقد اكتشف « الهندي» أولاً مجموعة زميله جهاد ضاحي. ولمّا تبين لهذا الأخير أن لا فوارق بين مجموعته ومجموعة بيروت قرر الاندماج. وعبر اتصالاته استطاع « الهندي» الالتقاء بتوفيق حسين. وبعد معاناة من الحوار اتفق الثلاثة على التقاء ممثلين عن مجموعاتهم فمثَّل جورج حبش وهاني الهندي مجموعة بيروت ومثل جهاد ضاحي المجموعة السورية ومثل حسين توفيق المجموعة السورية. وفي اجتماع شهر آذار/ مارس سنة 1949 وافقت المجموعات الثلاث على الاندماج والعمل تحت اسم « كتائب الفداء العربي» .

وقد استهدفت « الكتائب» ضرب المصالح الغربية واليهودية ونسف الهدنة مع إسرائيل واغتيال
القادة العرب الذين أبدوا آنذاك استعداداً للصلح مع إسرائيل. وباعتراف مؤسسيها لم تكن المنظمة إلا نوعاً من « جماعة ضاغطة مهمتها التأثير على الصفوة الحاكمة عن طريق إزعاجها إذا اقتضى الأمر» . و« كان القادة المؤسسون "للكتائب" شباباً في أوائل العشرينات من أعمارهم، وكانوا قد تشبعوا بأفكار سياسية متطرفة من خلال تجربتهم المرة كمتطوعين يحاربون إلى جانب الجيوش العربية في فلسطين. وكانوا قد شاهدوا بألم في ميدان القتال التناقض بين قوة إسرائيل وبين ضعف الجيوش العربية المجزأة. ومما زاد في حدة تجربتهم المؤلمة الهزيمة العسكرية وإجبار الفلسطينيين على النزوح من ديارهم» . وكانت العوامل النفسية التي خلفتها النكبة من أهم الدوافع لتأسيس « الكتائب». فقد شعر جورج حبش بالإهانة لإجباره وعائلته وثلاثين ألف آخرين على الرحيل من بلدته اللد. كما مثلت النكبة نقطة تحول في حياة هاني الهندي وجهاد ضاحي ولبقية أعضاء المنظمة، « ولم يعد بمقدورهم أن يسلكوا حياة طبيعية كبقية البشر إذ تملكتهم فكرة الانتقام» . وتعرض القادة المؤسسون، لاسيما مجموعة بيروت الفاعلة، إلى استقطاب أيديولوجي مبكر في السنوات الأولى من حياتهم الطالبية على شكل حلقات دراسية تتصل في القومية والوحدة العربية والتحرر والانعتاق من التخلف والعلمانية. وكانت هذه الحلقات تمتاز بعمق تاريخي وتقدمي بما أن ملقيها هو منظر القومية الليبرالية آنذاك الدكتور قسطنطين زريق أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية. ولا ريب أن هذه الحلقات « القومية والتحررية» كان لها وقع بالغ الأثر في نفسية المجموعة بالنظر إلى صغر أعمارهم. « وقد دفع الخوف من خطر التوسع الصهيوني هؤلاء القواد الشباب إلى العمل.. فورا، قبل فوات الأوان، إذ رأوا في وجود إسرائيل تهديداً مستمراً لتحقيق أهدافهم القومية ولم يكن عند هؤلاء في ذلك الحين، أمر أكثر أهمية من تحقيق أهدافهم تلك» .

ولعل في هذه الخلفية الأيديولوجية ما يفسر توجه قادة « الكتائب» نحو الحركات القومية الأوروبية متخذين من جيوسبي غاريبالدي القائد الفدائي الايطالي نموذجاً يحتذى ومثلاً أعلى في النضال ضد التجزئة. وبحثوا عن تقارب، و« لاحظوا التشابه بين واجباتهم وواجبات أتباع غاريبالدي الذين لقبوا أنفسهم بأصحاب القمصان الحمراء ». كما تعلموا من جيوسيبي مازِّيني عضو الجمعية الوطنية السرية الايطالية (كاربوناري) أساليب التنظيم السرية ككلمات السر والأسماء المستعارة. والأهم من كل هذا اعتمادهم مبدأ « الوحدة القومية ورفض مقولة الصراع الطبقي» الذي حكم أيديولوجيا حركة القوميين العرب لأكثر من عقد من الزمن . وفضلا عن ذلك تأثرهم بكل من « كافور وبسمارك اللذان أعطيا الأولوية لقضية الوحدة القومية وفضلاها على الإصلاحات الدستورية ونجحا في ذلك». كما تأثرت « الكتائب» ، عبر المجموعة المصرية، بالبناء التنظيمي والفكر العسكري لـ « أحمد حسين» زعيم منظمة « القمصان الخضراء» حيث عمل هؤلاء فيها سابقاً .

وبعد أربعة شهور من الاندماج باشرت « الكتائب» بهجماتها الانتقامية بسلسلة من الأعمال الحربية، على نمط حرب العصابات، وتميزت بطابع الاغتيال والتدمير لأهداف ارتؤي أنها معادية في كل من بيروت ودمشق. بيد أن صراعات نشبت بين المجموعات حول جدوى « العنف السياسي في النضال القومي» ما لبثت أن بلغت ذروتها مع انفصال المجموعات المصرية التي رفضت التوقف عن ممارسة العنف والتوجه نحو العمل الجماهيري. وبعد شهور سبقت العام 1950 تُوِّج خلافها بتنظيم محاولة فاشلة لاغتيال أديب الشيشكلي معاون رئيس أركان الجيش السوري أدت إلى كشف المنظمة السرية وضربها .

2. جمعية العروة الوثقى

تأسست في أوائل الثلاثينات، وكانت عبارة عن منتدى أدبي يضم عدداً كبيراً من طلاب وأساتذة الجامعة الأميركية. وكان في عضويتها قسطنطين زريق أشهر منظريها بالإضافة إلى آخرين أمثال فاضل الجمالي وإسماعيل الأزهري، الرئيس الأسبق لجمهورية السودان، وحيدر عبد الشافي الذي تبوأ فيها عضوية اللجنة التنفيذية سنة 1936 لما كان طالبا. ولكنها تحولت إلى جمعية سياسية قومية طلابية غداة النكبة . وبعد حل « الكتائب» نهائياً قبل العام 1950 واعتقال الكثير من قادتها من بينهم هاني الهندي، وبسبب اعترافات توفيق حسين لجأ جورج حبش إلى ساحة الجامعة الأميركية التي كانت تعج آنذاك بالحركات السياسية مستعيناً بذلك ببعض الأصدقاء القدامى والمخلصين في الجامعة. وبداية لا بد من الإشارة إلى أن نهاية « الكتائب» كانت فرصة ملائمة لجورج حبش للتخلص من التراث القديم والتوجه نحو النضال الجماهيري الذي كان يدافع عنه زمن « الكتائب». وقد حاول الدخول في تحالفات جبهوية [ تنسيق الأهداف والاحتفاظ بالاستقلال الأيديولوجي ] مع التيارات السياسية في الجامعة. وقد فشلت المحاولة مع الشيوعيين بسبب التزامهم بالخط السياسي للأحزاب الشيوعية المؤيدة لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة. كما فشلت محاولة أخرى مع الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي يدعو إلى وحدة تشمل سوريا الكبرى وهو ما اعتُبر خطراً يهدد الدعوة إلى الوحدة العربية الكاملة. وفشلت آخر المحاولات مع حزب البعث لأن مجموعة القوميين القادمة أرادت التركيز على الوحدة العربية انطلاقاً من التزامها بالقضية الفلسطينية ورفضت دعوة « البعث » حول « الاشتراكية» بحيث يتم « توجيه ضربة مزدوجة، في وقت واحد، للنفوذ الأجنبي والاستغلال المحلي». كما رفض القوميون « النزعة البادية لدى البعثيين باتجاه تقديس الأفراد» .

هكذا نظمت مجموعة القوميين صفوفها بقيادة جورج حبش وخاضت انتخابات اللجنة التنفيذية للجمعية، ووسط دهشة الجميع نجحت المجموعة بالسيطرة على اللجنة التنفيذية وأقصت التيارات الأخرى، وقد التحق بالجمعية أمين الهندي بعد الإفراج عنه وأحمد الخطيب (فلسطيني من الكويت) وود يع حداد (فلسطيني)، « فأعطوا الجمعية بعدا فلسطينيا واضحاً وحملوها على انتهاج سياسة فلسطينية كانت فيما بعد هي السياسة الوحيدة فيها» .

وقد تمكنت المجموعة الجديدة من تشكيل محور خاص بها في إطار « العروة الوثقى» أسموه « شباب الثأر »، إلا أن هذا الاسم تغير لاحقاً فصار يعرف طوال الفترة ما بين سنتي 1953-1958 بـ « الشباب القومي العربي». وكانت سياسة هذا المحور تقوم على رفض إسرائيل والحيلولة دون إجراء مفاوضات مباشرة معها. ولتدعيم نشاطه أسس « هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل» وأصدرت، هذه الأخيرة، نشرة حملت اسم «الثأر» وطرحت شعار « الوحدة – التحرر- الثأر» مقابل شعارات « البعث » في حينه « وحدة – تحرر- اشتراكية». ووزعت النشرة على طلبة الجامعة الأميركية بكثافة حيث محور نشاط الهيئة. وعلى قاعدة النضال الجماهيري نجحت الهيئة في إيصال النشرة إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان رغم الحصار والمراقبة البوليسية الشديدة.

واهتم وديع حداد وجورج حبش بأوضاع المخيمات حتى أن هذا الأخير كان يجهد على رأس جمعيته بتنظيم التبرعات العينية إلى اللاجئين في كل فصل شتاء كنوع من المساهمة في التخفيف عن معاناتهم. وفي مقابلة أجراها أحد الباحثين مع أحمد اليماني، الذي سيصبح أحد أهم قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قال: « أنه التقى جورج حبش في أحد فصول الشتاء في مخيم "عين الحلوة" القريب من مدينة صيدا الواقعة في الجنوب اللبناني واقترح عليه تقديم المساعدات نقداً ليتمكنوا من استغلالها في تشكيل فرق كشفية في مدارس المخيمات ولإعداد مقاتلين مدربين مستقبلاً. وما أن سمع "حبش" بالفكرة حتى تلقفها وأخذ يقيم علاقات تنسيقية بين زملائه في الجامعة الأميركية وبعض نشطاء المخيمات ممن كانوا منضوين تحت أسماء منظمات وهمية مثل "التنظيم العربي الفلسطيني" و "المنظمة العسكرية لتحرير فلسطين" ». ومع الوقت غدت العلاقة بين الطرفين علاقة تنظيمية في إطار ما سيعرف، فيما بعد قليل ، بحركة القوميين العرب .

3. حركة القوميين العرب (الشباب القومي العربي)

لم تمض شهور على الجمعية التي آلت مقاليدها إلى مجموعة المتنفذين الجدد حتى انتقل نشاطها من ساحة الجامعة إلى خارجها خاصة باتجاه المخيمات الفلسطينية في لبنان. ونجحت المجموعة في إقامة علاقات مع السكان ونشطائهم. وأدركت، على ما يبدو، أن الإطار الذي تعمل من خلاله لم يعد يتسع كثيراً لجمهور الطلبة الذين التحق الكثير منهم في الجمعية ولجمهور اللاجئين الذين باتوا ينتظرون مساعداتهم المدرسية ونشراتهم التحريضية. في هذا السياق بادر نائب رئيس الجمعية الدكتور جورج حبش باقتراح إلى اللجنة التنفيذية لـ « العروة الوثقى» يدعو إلى إنشاء منظمة سرية قومية جديدة تكون اللجنة التنفيذية نواة لها. فاستجاب للاقتراح كافة الأعضاء وعددهم ستة وثلاثون عضواً. ولأنها لا تمتلك أية أيديولوجية، وبسبب الانتقادات التي وجهتها التيارات السياسية الأخرى عاجلت الحركة السرية نفسها وقدمت برنامجاً من مرحلتين: « المرحلة الأولى: تهتم بالنضال السياسي الذي يهدف إلى التخلص من الصهيونية والإمبريالية في الوطن العربي، وإلى خلق دولة عربية موحدة تضم الشعب العربي من الخليج إلى المحيط الأطلسي والمرحلة الثانية: تهتم بالنضال الاقتصادي الذي يمهد الطريق إلى الاشتراكية العربية والديمقراطية » . ومنذ سنة 1951 اشتهرت حركة القوميين العرب، كمنظمة سرية، باسم « الشباب القومي العربي» الذي عملت به في الأردن بقيادة جورج حبش ووديع حداد بعد تخرجهما من الجامعة الأميركية وعودتهما إلى الأردن. وكانت الحركة قد شرعت في إقامة فروع لها في سوريا والأردن والعراق، وبخلاف الأردن لم يكن عدد أعضاءها في سوريا والعراق يتجاوز أصابع اليدين كثيراً. إذ كانت ضعيفة في العراق. أما في سوريا فحرمها حزب البعث من « العبث» في احتكاره للساحات الجامعية والطلابية. وفي مصر لفتت الحركة انتباه المصريين إثر صداماتها الطلابية في باحة الجامعة الأميركية ضد حلف بغداد أواخر شهر آذار/ مارس سنة1954 وأسفرت عن مقتل أحد الطلبة وجرح نحو 27 طالباً آخرين من قبل الشرطة التي كانت تحاصر الجامعة. واتخذت الجامعة في حينه إجراءات عقابية إضافية تمثلت في طرد خمسة من الطلبة. ومع مطلع السنة الجديدة عاودت الإدارة فصل 17 طالباً آخراً الأمر الذي أدى إلى تقارب فوري بين الحركة والضباط الأحرار في مصر، حيث تم قبول جميع الطلبة المفصولين للدراسة في الجامعات المصرية، وشكل هؤلاء حلقة اتصال بين الحركة القومية والسلطة المصرية، كما أنهم كُلفوا بالعمل على توسيع فروع الحركة. وفعلاً كانت مصر جسر عبور نحو بناء فروع أخرى في ليبيا، السودان، اليمن والجنوب العربي ، إلا أن هذا التوسع بقي محصوراً في إطار طالبي ولم ينجح في التغلغل بين الفئات الاجتماعية بسبب تنظيمه العمودي المعقد الذي يحول دون الاتصال بين مجموعتين إلا من خلال سلطة عليا. أما في العراق فقد توسعت الحركة بعد السماح لفرعها هناك بتجنيد أعضاء في القوات المسلحة وتوسيع مجالات العضوية لتشمل العمال والفلاحين. ومن المفارقات أن فرع العراق احتج لدى مبعوث القيادة القومية للحركة هاني الهندي الذي وصل في أعقاب ثورة تموز 1958 مطالباً بإعطاء القوميين العرب اسماً جديداً لأنه غالباً ما ينظر إليهم بوصفهم أتباع لـ « حزب الاستقلال» في العراق. كان الاحتجاج توصية من القيادة المحلية وافق عليها «الهندي». ومنذ ذلك الحين (1958) اكتسب القوميون العرب الاسم الجديد الذي اشتهروا به فيما بعد وهو « حركة القوميين العرب » .

4. إقليم فلسطين

بدأ التفكير في دور للحركة في النضال القومي يتبلور مع انطلاق الفتوحات الناصرية في مصر والتي توجت بإعلان الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا سنة 1958، وبعد أن ربطت الحركة مصيرها بمصير دولة الوحدة؛ ولما أدركت الحركة تباين مشكلات الأقطار العربية من خلال تقارير الفروع اعترفت بخصوصية المشكلات القطرية، ولكن في الإطار القومي. وعلى هذه الخلفية طُرح السؤال بإلحاح: ما هو دور الفلسطينيين في إطار الالتزام بالعمل القومي؟ وللإجابة عليه تشكلت « لجنة فلسطين» من بين العناصر القيادية للحركة، وخلصت، إثر مناقشات وأبحاث استهدفت تحديد الدور الذي ينبغي أن يضطلع به الفلسطينيون إلى ما يلي:

1. « تحرير فلسطين من خلال حرب نظامية تشترك فيها دول الجامعة العربية.
2. تحرير فلسطين من قبل الفلسطينيين أنفسهم.
3. تحرير فلسطين من خلال دولة الوحدة.
4. تحرير فلسطين من خلال الفلسطينيين واعتماداً على دولة الوحدة » .

سقط البند الأول لأن الدول العربية لم تكن مهيأة لشن حرب نظامية بسبب انشغال بعضها في مكافحة الاستعمار المباشر والبعض الآخر بمخلفاته أو بخصومه فضلاً عن ضعف البنى التحتية في الدول المستقلة. وسقط البند الثاني لأن الفلسطينيين كانوا يدركون منذ البدء عدم قدرتهم على تحرير بلادهم وحدهم. أما البند الثالث فقد بدا غير متوافق مع محدودية الحركة في التأثير على دولة وجرها لحرب تحريرية. لذا استقر رأي اللجنة على دعم البند الأخير والذي يتلاءم وطموحات الحركة في أن يكون للفلسطينيين دور محدد وطليعي. وفي خضم هذا التوجه تطور موقف الحركة إزاء القضية الفلسطينية وتقرر سنة 1960 تأسيس فرع مستقل عرف باسم « إقليم فلسطين»  أسوة بباقي الفروع . وبسبب التوزع الديمغرافي فقد تشكل الإقليم تنظيمياً من مجموع «الساحات الفلسطينية» التي تنتظم جميعها تحت القيادة المركزية للإقليم في صلب الحركة . ولكن لم يمض سوى عام أو عامين حتى كان في الساحة الفلسطينية نحو 36 تنظيماً. وعن هذه الفترة (1961/1962) يتحدث الدكتور جورج حبش قائلاً:

« بدأنا في حركة القوميين العرب نناقش المسألة .. هل نستمر في التعاطي مع القضية الفلسطينية من خلال نضالنا كحركة قوميين عرب أم أنه آن الأوان لمراجعة موقفنا والتفكير بعمل فلسطيني ضمن حركة القوميين العرب؟ وانتهى الأمر إلى اتخاذ خطوات. فصلنا الأعضاء الفلسطينيين عن فروع الحركة في لبنان والكويت وسوريا ووضعناهم في قطاع تنظيمي معين ليتمكنوا من تلقي مادة تثقيفية فلسطينية تمهد لإعدادهم عسكرياً..استمر الوضع على هذا الحال حتى مؤتمر القمة العربي الأول الذي تقرر فيه إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية... في عام 1964 كان هناك فرع فلسطيني وقيادة فلسطينية مهمتها العمل الفلسطيني والتهيئة للكفاح المسلح في الساحة الفلسطينية وإعداد مقاتلين وتدريبهم … » .

وقد استمر الوضع التنظيمي للحركة على هذا النحو حتى سنة1967 لتظهر بعد شهور قليلة من الهزيمة في صيغة جديدة هي « الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ثم تبدأ رحلة الانشقاقات داخل الحركة.

 الجذور الاجتماعية والنفسية وعلاقتها بالأيديولوجيا

إن أول ما يستدعي التأمل في التكون التاريخي لحركة القوميين العرب أنها باتت تنظيما فلسطينيا في شكلها وجوهرها ومحتواها الأيديولوجي وأهدافها. ومن ناحية أخرى، إذا اعتبرنا تأسيس الحركة « محصلة لتجارب قادتها المؤسسين في عدة تنظيمات وجمعيات ذات منحى قومي تحرري» فإن ما يلفت الانتباه أن « مجموعة بيروت» هي الأَوْلى بهذا الحكم. إذ أن اندثار «المجموعة السورية» ونهاية فصل « كتائب الفداء العربي» سيؤدي إلى محصلة واحدة تصب في صالح « مجموعة بيروت» التي شكلت الحلقة المركزية سواء في « كتائب الفداء» أو في « جمعية العروة الوثقى» أو في « هيئة مقاومة الصلح» ثم أخيراً في « حركة القوميين العرب ». وقد تشكل معظم أعضائها من الفلسطينيين الذين انتظموا عشية النكبة في كلية الطب في الجامعة الأميركية. وبما أنهم تمكنوا من متابعة تحصيل علمي جامعي فمن المؤكد أنهم ليسوا من الفقراء ولا من المعدمين ولا من شرائح الكادحين الذين يكدون لتحسين فرص الحياة الاجتماعية والاقتصادية لهم. وإذا لم يكونوا من البرجوازية الكبرى ولا من البرجوازية المتوسطة القريبة منها ففي أسوأ الفروض يمكن تصنيفهم ضمن شرائح «البرجوازية الصغيرة». أو على الأقل هم يرون أنفسهم كذلك. لا شك أننا محاطون بمجموعة شديدة التماسك ومصممة على المضي قدماً في خططها التنظيمية. ولا شك أن هذا الإصرار لا يصح تفسيره بدوافع طبقية فحسب أو أيديولوجية أو ثقافية. ففي المسألة جانب نفسي عظيم الأهمية وآخر إنساني يتعلق بسيكولوجيا اللجوء. وقد عبر معظم القادة المؤسسون عن مشاعر مؤلمة شكلت علامات فارقة في حياتهم. وتوجهت معظم الكتابات، إن لم تكن كلها، نحو جورج حبش الشخصية المحورية في « مجموعة بيروت» وسجلت رواياته عن معاناته مع « الإنكليز» وقرار تقسيم فلسطين ورحلة اللجوء، ولقد رأينا أن نسجل بعض المقتطفات منها. فماذا قال « الحكيم» (جورج حبش) ؟
«عندما طرق الجنود الإنكليز باب بيتنا وأبواب بيوت الأهل والأقارب والجيران في اللد … سمعت صراخاً وعويلاً ونحيباً في منزل أحد جيراننا. وسألت أمي عن سبب ذلك فقالت لي أن الإنكليز أعدموا ابنهم .. لا أعرف كيف كانت مشاعري، الآن أعرف أن مثل هذه الأمور تجمعت وجعلتني أختار الطريق الذي أسلكه». ويتابع: « إن قرار التقسيم أحدث ردة فعل حادة في المنطقة، ووجدت نفسي .. مع بداية السنة الثانية في كلية الطب أعيش في جو سياسي سببه قرار التقسيم..كانت مشاعري تتركز حول نقطة واحدة هي أن "القرار" يجب ألا يمر، ووجدت نفسي في تظاهرة تستنكر قرار التقسيم.. وبعد ذلك تصاعد النشاط السياسي في الجامعة وأصبحنا في الفترة التي سبقت 15أيا/مايو 1948، عندما صدر إعلان تأسيس إسرائيل، مشدودين إلى المعارك التي كانت تخوضها داخل فلسطين مجموعات تابعة للهيئة العربية العليا، ونتيجة لذلك رفعنا في الجامعة مطلب التجنيد، خصوصاً أنه في تلك الفترة طرحت فكرة جيش الإنقاذ لمواجهة عصابات الهاجاناه ... التي كانت تهاجم أهلنا في فلسطين وتجبرهم على النزوح من ديارهم » . ويتصاعد الموقف مع « الحكيم» إثر الهزيمة وخلال رحلة اللجوء بعيداً عن الوطن:

« لقد شعرت بالإهانة في أحداث 1948. فقد أتى الإسرائيليون إلى اللد وأجبرونا على الفرار.. صورة لا تغيب عن ذهني ولا يمكن أن أنساها . ثلاثون ألف شخص يسيرون.. يبكون.. يصرخون من الرعب.. نساء يحملن الرضع .. والأطفال يمسكون بأذيالهن .. و .. الإسرائيليون يشهرون السلاح في ظهورهن .. بعض الناس سقط على قارعة الطريق، وبعضهم لم ينهض ثانية. لقد كان أمراً فظيعاً. ما أن ترى ذلك حتى يتغير عقلك وقلبك.. يجب على الإنسان .. أن يعمل شيئاً ما، .. أن يقتل إذا اقتضى الأمر.. ولو أدى ذلك إلى أن نصبح بدورنا غير إنسانيين » .

تبدو هذه المشاعر مطابقة لما أفصح عنه الكثير من القادة الفلسطينيين غير أن الفرق يكمن في هويتها. ففي حين تحدث البعض عن محنة اللجوء في سياق سياسي أو إعلامي عام فإن جورج حبش يتحدث عن مشاعر شخصية كتلك التي عبر عنها صلاح خلف ( أبو إياد ) . فهي صادرة عن ضحايا وليس عن شهود عيان أو رجال سياسة. ولا ريب أن هذه المشاعر نالت من شخصيته وكانت حافزاً قوياً « لعمل شيئاً ما» بما في ذلك « القتل». وهذا ما تجسد في تأسيس « الكتائب» وتبنيها لفكرة « الثأر والانتقام».

إن شخصية هاني الهندي تؤدي إلى نفس الاتجاه رغم اختلاف الظروف. فقد ولد « الهندي» في بغداد حيث كان والده السوري ضابط في الجيش العراقي برتبة مُقدم عرف عنه حماسه القومي، ورغبته في أن يربي ابنه تربية قومية عربية. لذا يمكن القول أن الابن نشأ في بيت تسوده الروح القومية، ومن خلال نشاطات والده الثورية ضد الإنكليز والملكية خَبِر الابن الأفكار القومية منذ الصغر، واطلع على محاسن الحركة الثورية ومساوئها. وبعد تسريح والده من الخدمة انتقلت عائلته إلى سوريا وأنهى دراسته الثانوية في منطقة « الشويفات» بلبنان والتحق بالكلية الأميركية في حلب. وفيها تعرف على جهاد ضاحي والدكتور نديم البيطار الذي أعجب أيما إعجاب بالثقافة القومية لدى الهندي وخبرته بالسياسة العراقية. لهذا، ربما ، كان محط إعجاب أصدقائه في الكلية لِمَا اتصف به من معرفة وحب للعمل واجتهاد. فكانت شخصيته محور جذب لزملائه الطلبة. وتحدث عنه جهاد ضاحي مؤكداً أنه تأثر، مع بقية زملائه، بحماس هاني وتعلقه بالقضية العربية. « لقد كنا بلا شك متأثرين بهاني الذي سحرنا بإيمانه ولباقته وشخصيته» .
ولقد أكد الاثنان، هاني وضاحي، « الأثر العميق لنكبة فلسطين على سلوكهم وطريقة تفكيرهم. فلقد كانت النكبة بالنسبة لهما ولبقية أعضاء تلك المنظمة نقطة تحول في حياتهم. ولم يعد بمقدورهم أن يسلكوا حياة طبيعية كبقية البشر إذ تملكتهم فكرة الانتقام » .

أما باسل الكبيسي نفسه ، العضو القيادي في حركة القوميين العرب، فهو عراقي من قرية « الكبيسة» الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة بغداد. فقد أفلت من « العنكبوت الطبقي» لاسيما وأن والده « رؤوف» خبر العمل السياسي والحزبي منذ 1908 لما انضم إلى « جماعة العربية الفتاة » ثم ضابطاً في جندرمة بغداد (1911)، ثم حارب القوات البريطانية الغازية (1917) والتجأ إلى سوريا والتحق بحكومة الملك فيصل وأصبح قائداً لدرك حلب، ثم عين محافظاً لمدينة البصرة. وبسبب معاداته للبريطانيين أعيد إلى بغداد وعين مديراً عاماً لسجونها. وأيديولوجيا كان أحد أبرز أنصار ياسين الهاشمي « بسمارك العرب»، « القطب الرافض لأية معاهدة من شأنها ربط العراق بالدول الأجنبية » .

إن الجذور القومية للقادة المؤسسين جعلت منهم مجموعة قابلة للتقارب ومن ثم التماسك. وشاءَت الصدف أن تكون ميادين الجامعة الأميركية في بيروت منطلق نشاط حثيث أثمر في النهاية عن تشكيل أو الانخراط في عدة منظمات سياسية كانت حركة القوميين العرب خلاصتها. ومع ذلك فإن العناصر الفلسطينية لعبت الدور الحاسم في نشاط المجموعة التي قادها « حبش » واقتحم بها جمعية العروة الوثقى وسيطر عليها في غياب هاني الهندي القطب الثاني في الحركة والذي اعتقل إثر محاولة الاغتيال الفاشلة لأديب الشيشكلي. وقد أظهرت المجموعة اللاجئة التي كان أبرزها وديع حداد وأحمد الخطيب تصميماً على تشكيل منظمة سياسية. ولا شك أن اللجوء شكل أحد أقوى الدوافع الحاسمة لهذا الإصرار إن لم يكن أهمها على الإطلاق. فأياً كانت توصيفاته « فالمنفى، بحد ذاته، … ألم لا يستطيع فهمه سوى أولئك الذين عانوه» .

 « الثابت والمتحول» في الأيديولوجيا

مع أنه يمكن اعتبار حركة القوميين العرب، فيما عدا حزب البعث، وعلى مستوى أيديولوجي معين، خاتمة المد القومي الذي اخترق، منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ساحة الفكر العربي في المشرق بالذات إلا أن التيارات الاشتراكية والرأسمالية تأخرت ولن تعرف شيوعاً بسبب الطموحات الكولونيالية في المشرق العربي. ومنذ أوائل الثلاثينات فقط جاء الرد على الحركة الاستعمارية عبر تيار عرف بـ «عصبة العمل القومي» التي تميزت عن غيرها من الأحزاب السياسية الناشئة بإعطائها الأولوية لمشكلة دمج المجموعات الاجتماعية في إطار وجود سياسي منفصل أكثر مما عملت في سبيل تحقيق الهدف القومي الجوهري الخاص بإقامة دولة عربية قومية واحدة. ومع ذلك حافظت « العصبة» على خط قومي صارم « يرفض الاعتراف بشرعية الحدود الإقليمية التي اختطتها القوات الأجنبية»، وعملت على « إنشاء نظام حديث لدولة تتضمن بناء سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ممكن التطبيق». كما حاولت صياغة مبدأ قومي منتظم من خلال الإسهام في تعريف كل من القومية والأمة بصورة واضحة. وقدمت برنامجا شاملاً للعمل القومي لا في المشرق العربي فحسب بل في مصر والأجزاء الأخرى من الوطن العربي أيضاً. وكان علي ناصر الدين أحد أبرز أعضائها القياديين. وهكذا أصبح الطريق سالكاً لمفكر عربي آخر، بعد نهاية الحرب الثانية، هو ساطع الحصري الذي دعا إلى رفض القطرية وجعل من القومية العربية مفهوماً ينسحب ليشمل كل الذين يتكلمون اللغة العربية مصر وشمال أفريقيا. ولأن أفكاره ذات علاقة بمراحل الاحتجاج القومي أكثر من اهتمامها بمهام البناء القومي فلم تعالج « أطروحاته النواحي الاقتصادية والاجتماعية » . وبخلاف ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار مؤسسا حزب البعث اللذان ربطا بين القومية السياسية والقومية الاجتماعية بعيداً عن الاستعمار ظل قسطنطين زريق قانعاً بالقومية العربية الداعية إلى الاستفادة من الغرب على أساس مفاهيم التقدم ونبذ الانغلاق الاجتماعي والفساد والتخلف.

من الواضح أن القومية مفهوم غلب عليه المحتوى السياسي والمحتوى الاجتماعي. ولولا الظروف السياسية التي رافقت نشأة حركة القوميين العرب والتي بلغت ذروتها في سقوط فلسطين لما عملت الحركة « بثلثي نظرية البعث». فالتحرر السياسي كان هو المبدأ الذي طغى على أيديولوجيا « المؤسسين». وهؤلاء هم جزء من تيارات قومية تصارعت طويلاً قبل أن تحسم « النكبة »، وتشق، المحتوى النظري للقومية كمفهوم يشتمل على التحرر السياسي والتحرر الاجتماعي. وكان الأخذ في الشق الأول من النظرية « وحدة ، تحرر» يعني إغفال الشق الآخر « الاشتراكية». ولكن إذا لم يكن ثمة أيديولوجيا ، فكيف بررت الحركة وجودها؟

في الواقع، تبدو عملية البحث عن أيديولوجيا للحركة عقيمة إلا في حالة توليد ما يمكن أن يتصف بسمات أيديولوجية. أي بمستويات أيديولوجية أكثر منها منظومة أيديولوجية. وهذا يعني أننا قد نقع على ممارسة سياسية ذات أبعاد أيديولوجية محدودة لأن وصف الحركة بكونها وليدة ردود الفعل على سقوط فلسطين مرده، فعلاً، « نشأتها التنظيمية» البحتة. فقد «اهتم مؤسسوها منذ البداية بالعمل المباشر والفوري ذي الطابع التحريضي .. وإذا كانت قد شهدت توسعاً تنظيمياً ولعبت أدوارا سياسية وعسكرية متفاوتة الأهمية خلال مراحل وجودها المختلفة، فإن الجانب الفكري في حياتها ظل معدوماً. لقد كانت تنظيماً بلا رأس مفكر ولم يكن جورج حبش أكثر من رأس منظم … » . هذه الخلاصة التي يقترحها فيصل جلول تمكن من تشخيص نشأة الحركة وتطورها وانهيارها. وتوازي تمييز باسل الكبيسي لثلاث مراحل أيديولوجية مرت بها الحركة هي القومية والاشتراكية والماركسية - اللينينية. وفي هذا السياق لا سبيل إلى فحصها إلا في ضوء علاقة الحركة بالأحزاب السياسية وموقفها من التيارات الأيديولوجية القائمة.

1. القـومية

منذ النشأة الأولى عنت القومية عند الحركة « الوحدة كيفما كانت وبأي ثمن» لأن الفلسطينيين وحدهم لا يمكنهم تحرير فلسطين، ولان السبيل الوحيد للتغلب على إسرائيل يكمن في تحقيق وحدة بين الدول العربية تمكِّن من شن حرب نظامية. وفي فترة السنوات الأولى تأثرت حركة القوميين العرب بشخصيتين شكلتا نواة الفكر القومي عند قادة الحركة وليس عند الحركة التي لم تكن لها نصوص أيديولوجية. فقد استمر قسطنطين زريق بلعب دور المرشد للجنة التنفيذية للعروة الوثقى. وحافظ على صلة وثيقة بالقادة المؤسسين للحركة. وكانت الحلقات الدراسية التي استمع إليها هؤلاء الأخيرون ذات أثر بالغ، وكان على رأس الكتب المطلوب قراءتها كتاب « الوعي القومي»، ودراسة عن « معنى النكبة» لقسطنطين زريق. وينفي « الكبيسي» أي دليل لتأثير « زريق» على الشباب القومي العربي لاسيما ما أشيع من أن « الحركة» كانت امتداداً لمنظمة قومية سابقة هي « جماعة القوميين العرب» التي لعبت دوراً في تأسيس أكثر من منظمة قومية مثل « حزب فلسطين العرب» و « عصبة العمل القومي».

ولكن هذه الأخيرة التي كان علي ناصر الدين أحد قادتها الأوائل كان لها تأثير حاسم على توجهات حركة القوميين العرب حتى أن هذا الرجل وصف بـ « المرشد الروحي» للحركة. فقد كان في نظر القوميين العرب « رجلاً ذا نزاهة فكرية عالية وصرامة معنوية حادة بالإضافة إلى كونه نجح في تجسيد ما دعا إليه بثبات دون تكلف وبصفاء عقائدي خال من المنفعة الشخصية. وكان الشخص المفضل بحكم انصرافه إلى القضية العربية عامة والقضية الفلسطينية خاصة فاستمعوا إليه بحماس وتشوقوا دوماً لسماع نصيحته» .

ويعتقد « الكبيسي» أن علي ناصر الدين حث القوميين العرب، خلال السنوات الأولى، على تأييد أية خطة تدعو إلى الوحدة العربية بغض النظر عن الجهة التي تعمل من أجلها ولم يعترض هؤلاء على المشاريع البريطانية الساعية إلى خلق « سورية الكبرى» و « الهلال الخصيب» طالما أن إنجاز هذه المشاريع سوف يعجِّل في التخلص من النفوذ الأجنبي عن طريق خلق دولة عربية كبرى. كما حثهم على حملة المقاطعة التي قادتها الحركة ضد البضائع الأجنبية وجعَلَها تشتهر بكونها أكثر المجموعات تعصباً في ساحة الجامعة الأميركية ببيروت. وكان « ناصر الدين» وراء محاولة القادة لخلق مجتمع صغير رأى القوميون العرب فيه صورة مستقبلية للمجتمع العربي على قاعدة أن كل قومي عربي هو « فارساً يعمل من أجل تطهير الحياة الاجتماعية» وكل عضو في الحركة هو « مثالاً حياً للمواطن العربي في المستقبل» . ويذكر باحث عربي: « إن حركة القوميين شاركت التنظيمات الثلاثة (حزب الاستقلال، حزب الفداء القومي وعصبة العمل القومي) في المنطلقات والغايات. وقد اعتمدت ذات الأسس التي اعتمدتها "العصبة". إذ تحدث قادة الحركة عن جذور حركتهم فأشاروا إلى رجوعها إلى منطلقات العصبة وأسسها » .

باختصار فإن النشاطات الأيديولوجية للحركة تمثلت بالنقد الذي قدمته منظمة الاشتراكيين اللبنانيين 1970 حيث جاء فيه:
« لقد اندفعت الحركة إلى ممارسة سياسة وحدوية رومانطيقية ضبابية تميزت بالإلحاح اللفظي الشديد على قضية الوحدة. وهكذا ارتفعت في أوساط الحركة شعارات الوحدة بأي ثمن .. والوحدة أولاً والوحدة آخر كل شيء وفوق أي شيء .. والوحدة طريق التحرر ومفتاح لكل المعضلات التي تواجه المجتمع العربي .. الخ .. وحتى قيام الجمهورية العربية المتحدة لم تر فيها الحركة إلا " دولة القوة " ( طرفي الكماشة حول إسرائيل ) فاندفعت لتأييدها بهذا المنظار أساساً » .

وفي واقع الأمر فإن الحركة أحست مبكراً بالنقص الأيديولوجي الذي كان يشكل مدخلاً ملائماً لتوجيه الانتقادات لها من قبل الأحزاب والقيادات السياسية السائدة. وفي هذا الإطار، من ردود الفعل المتواصلة، تجيء محاولتها الأولى للتنظير لمفهوم القومية عبر اثنين من المفكرين القوميين هما حامد الجبوري والحكم دروزة اللذان أصلا لفكرة « القومية» وأصدرا كتاباً سنة 1959 بعنوان: « مع القومية العربية»، وحاولا فيه تقديم صياغة أيديولوجية للحركة عن مفهومها لـ « القومية العربية». وقد حاول الكاتبان البرهنة على أن: « القومية لم تكن نتاجاً للدول البرجوازية في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وإنما النتيجة المنطقية لعملية تطور طويلة على امتداد التاريخ البشري». واستهدفا من وراء تتبع الجذور القومية منذ المراحل الأولى للعائلة والقبيلة و دولة – المدينة» إظهار أن: « القومية لم تكن مجرد مرحلة في تاريخ التطور البشري وإنما القوة المحركة وراء التاريخ" رافضين كل التفسيرات الأخرى ومؤكدين على "أن المجتمعات البشرية لا تتطور وفقاً لخطوط الانقسامات الطبقية أو..الدينية. إذ لا وجود لمجتمعات إسلامية أو مسيحية ولا لمجتمعات عمالية ورأسمالية. فالمجتمعات تطورت كأمم وكانت القومية هي القوة المحركة» . وإذا كان واضحاً أن: « النقاش بأكمله قد اعتمد على افتراض أن للقومية علاقة بالطبيعة الإنسانية» فإن الشيء الأكثر وضوحاً هو تأثر الكاتبين بالفكر الماركسي الذي كان يغزو المنطقة آنذاك. ولا أدل على ذلك من الشعارات اللفظية التي جرى تلبيسها للقومية. ومن الواضح أن الكتاب بمجمله خُطَّ على عجل، ربما، لمواجهة الأحزاب الشيوعية العربية التي، بتنكرها للقومية، شوهت الماركسية ذاتها التي تعترف بالنضال القومي لطرد الاستعمار. والمهم أيضاً الإقرار بحضور« ماركسي» في النسق الفكري والقيادي للحركة. وليس هذا غريباً على الحركة المرتبطة بجمهورية الوحدة لاسيما وأن عبد الناصر ذاته استفاد من اليسار المصري لتطوير مفاهيم الاشتراكية واستعان بالخبرات الماركسية في الإدارة والقيادة دون السماح لها بالوصول إلى السلطة . وكانت هذه التطورات الأيديولوجية مقدمة جادة وحازمة في السير نحو المرحلة الأيديولوجية الثانية التي ستخوضها الحركة.

2. الاشتراكية

بخلاف محاولتها التأصيل لمفهوم القومية لم تشغل حركة القوميين العرب نفسها بأي من المفاهيم
الأخرى خاصة مفهوم الاشتراكية. فهي في مطلق الأحوال عبرت عن موقف إما مناهض وإما مؤيد في فترات مختلفة من حياتها. فحتى سنة1961 كان موقفها من الاشتراكية إما معاد بشكل سافر أو حذر بشكل إيجابي. ومبدئياً عارضت الحركة القومية الحركات الشيوعية والدينية بسبب نزعة الأنسنة والمساواتية المتنكرتين للقومية من جهة وبسبب مواقف الشيوعية العربية المثيرة من القضية الفلسطينية واعترافها بقرار تقسيم فلسطين من جهة ثانية. أما الاتهامات الموجهة نحو جماعة « الإخوان المسلمين» فكانت تصفها بـ «التعصب» من جهة أخرى. بيد أن المشكلة المستعصية للحركة كانت مع حزب البعث الذي رفع لواء الاشتراكية قبل قيام إسرائيل ونص دستوره عليها (1947) . فإلام يُرَد العداء بين القوميين العرب وحزب البعث؟

بداية ينبغي التأكيد على أن جوهر الخلاف لا يتصل بمفهوم الاشتراكية خاصة بمحتواه « البعثي» كاشتراكية عربية مناقضة تماماً للاشتراكية الماركسية المدانة من كليهما، بل في القومية الليبرالية المحكومة بمتطلبات النكبة والتي لا تحتمل بنظر القوميين العرب أي تأجيل أو مشاركة لقضايا أخرى تبدو ثانوية. ومنذ ولادتها في صيغة « الكتائب» عبرت حركة القوميين العرب عن هويتها باتجاه مغاير لما درجت عليه الأحزاب العربية الأخرى.

وفي مراسلات شخصية بين « الكبيسي» و « جورج حبش » يروي الأخير حكاية أول اتصال بينه وبين ميشيل عفلق ظهر فيه الاثنان على طرفي نقيض. فقد عرض « حبش » فكرة قبول « الكتائب » جناحاً عسكرياً لحزب البعث « لقد أردنا أن نعطي البعث أسناناً ولكن قيادته خذلتنا إذ طلب منا عفلق أن ننضم إلى الحزب أولاً وعندئذٍ فقط يمكنه أن يدرس مقترحاتنا» . ولا شك أن هذه الحادثة تلقي بظلال كثيفة على توجه جورج حبش نحو جمعية العروة الوثقى في حينه، والتي كانت تعارض الاشتراكية بنهلها نسبيا من تراث قسطنطين زريق وعميقا من علي ناصر الدين. لقد جرى التعبير عن القطيعة غداة تأسيس حركة القوميين العرب واعتمادها برنامج المرحلتين المتلازمتين نظرياً والمنفصلتين تطبيقياً. فالتحرر السياسي الذي يربط الحركة بالقضية الفلسطينية هو الشرط الذي يتيح التقدم باتجاه التحرر الاجتماعي. بمعنى آخر ينبغي تسخير الجهد القومي ليتوحد باتجاه فلسطين، وأن أي تفكير في « إزالة الفوارق بين الطبقات» أو « توزيع للثروة جديد» أو « تدخل الدولة في توجيه قطاعات الاقتصاد العامة» وما إلى ذلك مما يعج به دستور حزب البعث ، فضلاً عن التبشير بـ « اشتراكية عربية» ما هو إلا تبديد للجهد الذي ينبغي أن يتركز حول مسألة واحدة هي الوحدة العربية وليس الدخول في صراعات طبقية .

لقد تعرض برنامج الحركة هذا إلى انتقادات شديدة من حزب البعث بسبب تجزئة النضال إلى مرحلتين واضحتين تقود إحداهما إلى الأخرى وأكد أنه لا يمكن تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية كلا على حدة . وكان ميشيل عفلق قد حدد بشكل مبكر طبيعة العلاقة بين مبادئ « البعث » الثلاثة « وحدة، حرية، اشتراكية » في مقالة كتبها سنة 1949 أشار فيها إلى أن: « البعث العربي قد أدرك حقيقة الأهداف القومية عندما جمعها في هذه المبادئ، وأدرك أنها تشكل وحدة خاصة. فالعمل للوحدة أمر ضروري طبيعي بالنسبة للعرب لضمان مستقبلهم. كذلك العمل في سبيل الحرية أيضاً. إذ ما قيمة الوحدة إذا لم تكن تضم شعباً حراً واعياً لحقوقه قادراً على ممارستها... والمبدأ الثالث الاشتراكية. وهو أن يكون في هذه الوحدة شعب حر منتج قادر على الحياة. وتكون لأفراده فرص متكافئة فتظهر قواه وإمكانياته دون عرقلة مصطنعة تفرضها طبقة على أخرى أو استثمار داخلي. عندها يعطي العرب قوتهم الكبرى ويكون مجتمعهم قادراً على البقاء والدفاع عن نفسه» . ومنذ سنة 1954 أخذ القوميون العرب يجهدون لتوضيح برنامجهم مشيرين أنه قد أسيء فهمه بسبب الاعتقاد بوجود فصل ميكانيكي بين المرحلة السياسية والمرحلة الاجتماعية. ولهذا أكدوا على تشابك العلاقة بين المرحلتين بحيث تسمح المرحلة الأولى للحركة القومية بالنضال من أجل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في حين تستمر تلك الحركة في متابعة النضال السياسي، إلا أن القوميين العرب ظلوا ملتزمين ببرنامجهم ذي المرحلتين في المناطق التي كان لا يزال فيها الطابع السياسي هو الطابع الرئيسي .

ومهما يكن الأمر فالموقف من الاشتراكية ظل سائداً طوال عقد الخمسينات بالرغم من التحلل التدريجي الذي طرأ عليه كلما اكتشفت مصر عروبتها وكلما اقترب موعد الحسم مع الأوضاع الداخلية بدءً من إطلاق « الضباط الأحرار» للدفعة الأولى من التأميمات سنة 1956 والتي شملت قناة السويس والشركات والمؤسسات المملوكة للأجانب القاطنين في مصر . ثم تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع عبر حملة تمصير استهدفت تحويل الاقتصاد من هيمنة القطاع الخاص إلى هيمنة القطاع العام. ولم تكن هذه التحولات إلا تمهيداً للإجراءات الاشتراكية الشهيرة سنة 1961، عشية انفصال دولة الوحدة، وقوانين سنة 1963. وقد استهدفت كل هذه التأميمات إخراج الاقتصاد المصري من هيمنة القوى الأجنبية والاستغلال المحلي والتوجه إلى تحقيق استقلال اقتصادي وتوزيع جديد للثروة أو من وجهة نظر أخرى « تقوية جهاز الدولة وحكم العسكر» . ولأكثر من سبب ربطت حركة القوميين العرب مصيرها بالناصرية وبدولة الوحدة منذ سنة 1958. وأكثر من ذلك طالبت بروابط تنظيمية مع الحركة الناصرية ولاسيما بعد أن ظهر في مصر سنة 1962 « الاتحاد الاشتراكي العربي» . ومع مرارة تجربة « الانفصال» إلا أنها عززت لدى قادة الحركة عقم برنامجهم التقليدي وأقروا بوجود أعداء طبقيين في ضوء تحميل شرائح الإقطاع والرأسمالية السورية مسؤولية فشل الوحدة، فقد بات واضحاً لديهم بوجوب مكافحة الطبقات الكبرى التي ترتبط مصالحها الاقتصادية بالقوى المعادية للوحدة والتحرر لتيسر مثل هذه المواقف على الحركة الترحيب بالتحولات الاجتماعية التي عبرت عنها القرارات الاشتراكية وشرعت بتقبلها.

وقد لخص « الكبيسي» انتقادات محسن إبراهيم، أحد الأعمدة الفكرية للحركة، التي توالت في سلسلة من المقالات نشرت سنة 1962 في كتاب بعنوان: « في الديمقراطية والثورة والتنظيم الشعبي»، وجاء فيه: « أظهر انهيار الوحدة بين سورية ومصر عدم صحة الانتقاد بأن الوحدة القومية هي في مصلحة كافة الطبقات في المجتمع العربي المعاصر. فقد بين الانفصال السوري، الذي فجره كبار الإقطاعيين والرأسماليين، بأن هذه الطبقات ليست مع الوحدة القومية.. فاقتصاديات البلاد العربية لم تتطور، بسبب الحكم الاستعماري السابق، وفقاً للمصلحة القومية.. وأن طابعها الاستعماري جعل كبار الإقطاعيين والرأسماليين يطورون قوتهم بربط مصالحهم بالمراكز الرأسمالية للقوى الاستعمارية. وقد جعلت هذه المصالح من المستحيل على هذه الطبقات أن تلعب الدور الذي لعبته مثيلاتها في أوروبا خلال القرن الماضي. أي أن تكون ذات طابع قومي. وعلاوة على ذلك يتعارض التخطيط الاقتصادي في البلاد النامية مع مصالح البرجوازية في حين تتناقض الوحدة القومية في الوطن العربي مع البرجوازية لأن للأخيرة مصلحة في إبقاء البلدان العربية مجزأة » .

3. الماركسية

لا شك أن الاعتراف بالنضال الاجتماعي عبر مفهوم الاشتراكية العربية كان أولى المقدمات لتغلغل الفكر الماركسي في صلب المؤسسة القيادية، ومن ثم تبني الاشتراكية الماركسية؛ بل الفكر الماركسي برمته. ففي الفترة ما بين 1961-1967 تمثل الحضور الماركسي في القيادات الشابة الناشئة بزعامة نايف حواتمه ومحسن إبراهيم وعبد الكريم حمد ومحمد كشلي وغيرهم مقابل « القيادات التقليدية» ممثلة بجورج حبش وهاني الهندي ووديع حداد وأحمد الخطيب. وخلال الفترة المذكورة نشبت خلافات شديدة على خلفية الفكر الماركسي والقرارات الاشتراكية وانفصال دولة الوحدة وحرب اليمن. ففي البداية قبلت القيادة التقليدية بالقرارات الاشتراكية ودافعت عنها وعن الرأي القائل بأن مثل هذه القرارات يجب أن تتم بصورة سلمية ضمن إطار تحالف واسع بين الطبقات العاملة والمثقفين والرأسماليين الوطنيين. وفي المقابل رفض محسن إبراهيم نظرية الانتقال السلمي نحو الاشتراكية على أساس أنها نظرية غير ملائمة ، لأن الملائم، بنظرهم، هو الصراع الطبقي الذي سيؤدي إلى فرز بين الطبقات المعادية والطبقات المؤيدة للتغيير، وأن المجتمع من المستحيل أن يظل كلاً واحداً أو يكون كذلك. بيد أنه عاد بعد قليل إلى الالتحام بالناصرية والتقى الرئيس المصري وبحث معه فكرة توحيد الحركات القومية العربية في حركة واحدة وعلى هذا الأساس أيد انقلاب البيروقراطية المصرية (أجهزة المخابرات) في اليمن على الجبهة القومية لتحرير اليمن في حين عارضته القيادة التقليدية . وفي كل الأحوال فشلت محاولة الإدماج أو الاندماج واستعادت فروع الحركة في الأقطار العربية استقلالها مجدداً.

في الأثناء كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي الكيان الذي أنشئ في صيغة عربية سنة 1964 ليعبر عن طموحات الفلسطينيين. وقد استهدف هذا الإطار المؤسسي السياسي تحرير فلسطين عبر حرب نظامية تشنها الجيوش العربية ضد إسرائيل بشكل مباغت وشامل لتحقيق حسم سريع للمعركة يتجاوز أية تدخلات خارجية لنجدة إسرائيل. ومنذ النشأة كانت أيديولوجيتها التنظيمية تقوم على تحقيق مواءمة أيديولوجية ترضي المنظمات الفلسطينية والقوى السياسية كافة والتي كانت تنقسم إلى تيارين، أحدهما يرفع شعار« الوحدة طريق التحرير» وتمثله حركة القوميين العرب والآخر يطرح الشعار مقلوباً « العودة طريق الوحدة» وتنفرد به حركة « فتح». وعبرت المادة الثانية عشرة في الميثاق عن هذا التوازن فنصت على أن: « الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان يهيئ الواحد منهما تحقيق الآخر. فالوحدة تؤدي إلى تحرير فلسطين، وتحرير فلسطين يؤدي إلى الوحدة العربية، والعمل لهما يسير جنباً إلى جنب». غير أن المشكلة ليست في البحث عن توازن بما أن المسألة تتصل بنهج قائم على رفض الكفاح المسلح الفلسطيني الهوية والمتمتع باستقلالية عن العمل القومي. وقد أثبتت هزيمة حزيران مدى الغبن الذي تعرضت له الحركة. وبينما كانت حركة « فتح» تحصد ما زرعته طوال عقد (1957-1967) كانت التيارات الأخرى وعلى رأسها حركة القوميين العرب « في حركة محمومة لمناقشة نتائج الهزيمة وأسبابها وتحديد موقف منها». وعبر سلسلة من المؤتمرات والاجتماعات المتتالية شهدت الحركة، ربما للمرة الأولى في تاريخها، انتشاراً واسعاً للمنهج الماركسي في التحليل، وفي المطالبة بتغيير الخط السياسي للحركة التي وصفت بأنها « شبه برجوازية» وتحويلها إلى حزب ماركسي- لينيني، وعلى الأثر انتشرت تصنيفات « اليسار واليمين» فيها؛ فـ« اليسار هو الذي أعلن التزامه بالماركسية- اللينينية واليمين هو الذي رفضها أو الذي وافق عليها مع التحفظ والتروي. لكن الحرص على وحدة الحركة وعدم تشرذمها كان سائداً في أوساط الفريقين» .

هكذا فإن أول تأثيرات الهزيمة-الكارثة على حركة القوميين العرب تجلت في ظهور مراكز للقوى جاهرت بالتزامها بالفكر الماركسي. كان هذا هو موقف القيادات الناشئة، أما القيادات التقليدية فقد رأت في تقبل التغييرات الجذرية الطريقة المثلى للحفاظ على وحدة الحركة. ويغدو الانخراط في الكفاح المسلح الفلسطيني الهوية هو الذي سيمكن الحركة من الاحتفاظ بشرعيتها التاريخية الممثلة بالعمل القومي. ذلك أن إدانة « الناصرية» باعتبارها « برجوازية صغيرة» لم تكن لتعن القطيعة إنما اختلاف في منهج العمل الثوري. وبفضل الثقل التنظيمي لمراكز القوى التي تبلورت في صلب الحركة لن يتبق سوى الحصول على الشرعية الثورية التي سيعني استقلالها تفجير بنية الحركة إلى منظمات متصارعة أيديولوجياً.

4. الثأر
ثمة من يبرر نشأة الحركة بتأطيرها في سياق طبقي أشمل تمثل في « سقوط القيادة البرجوازية الكبيرة للحركة الوطنية وبروز الجناح القومي والتقدمي من الطبقة البرجوازية الصغيرة والذي تصدى لقيادة الحركة الوطنية في الوطن العربي كما تمثل في قيادة ثورة 23 يوليو/ تموز عام 1952 في مصر وقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا » . إن هذا التبرير، رغم صحته في مساره لا يكفي لفهم الثالوث المفاهيمي الذي طوقت به الحركة نفسها مذ ظهرت في صيغة « كتائب الفداء العرب». ولا يكفي أيضاً إذا كان المقصود بذلك « مجموعة بيروت» التي مثلت عمود الحركة والتي تملكتها، مع المجموعات الأخرى، فكرة « الثأر والانتقام» من كل القوى التي رأت فيها مسؤولة عن ضياع فلسطين سواء كانت عربية أو أجنبية سعياً منها لتكون جماعة ضاغطة تؤدي إلى، أو تساهم في، خلق حالة ثورية عامة. ولعلنا بصدد « نشأة تنظيمية» مميزة قوامها مجموعة فلسطينية في غالبيتها ظل نشاطها يتلون، حسب الظروف، بأسماء تنظيمية ونشرات تحريضية لو تتبعنا مضامينها لوجدنا أن كلمة « الثأر» ظلت الفكرة المركزية التي تقف خلف النشاط السياسي والعسكري لمجموعة بيروت. وليس غريباً في مثل هذا الحال أن تكون المخيمات الفلسطينية أول هدف لنشاطها الإنساني والإعلامي التحريضي الذي قاده بالذات الدكتور وديع حداد. وإن قبول هذا الفَرَض سيؤول إلى اعتبار الحركة فلسطينية في جوهرها وأهدافها. وهذا يعني أن شعارها القومي « وحدة، تحرر، ثأر» الساعي إلى خلق دولة عربية واحدة هو شعار نفعي يوظف، أولاً وقبل أي شيء في خدمة أهداف الجماعة اللاجئة في «المنفى» والتي أدركت واقتنعت أنه لا سبيل إلى تحرير فلسطين بغير الاستعانة بالأمة العربية التي ينبغي العمل لإخراجها من حالة التجزئة إلى حالة الوحدة والقوة، إذ: « في وحدتنا قوتنا، وفي قوتنا ثأرنا، وفي ثأرنا حل لجميع مشاكل النازحين» .

لقد نهلت حركة القوميين العرب من حزب البعث ثلثي الشعار واستبدلت لفظة « الاشتراكية» بلفظة « الثأر». ولا شك أن تفسير ذلك يرتبط بما سبقت الإشارة إليه من الخلفيات الاجتماعية والنفسية التي تعرض لها القادة والمؤسسون لاسيما في مرحلة اللجوء. ولكننا لا نجد مفراً من دعم ما ذهب إليه أحد الباحثين العرب حين اعتبر أن: « مفهوم "الثأر" هو أهم المفاهيم على الإطلاق الذي ظلت الحركة تفكر- انطلاقاً منه- في مسائل الصراع العربي ضد الصهيونية. فتحرير فلسطين ليس أكثر من ثأر عربي لما لحق الأمة العربية من مهانة واستعباد على أيدي "اليهود" ». ويضيف هذا الباحث ما يكتسي دلالة حاسمة حين يشير إلى: « أن هذا التصور من الفقر والبساطة بحيث لا تمكن نسبته إلى أفكار زريق أو غيره من المفكرين القوميين، وأنه إلى ظروف التجربة السياسية لقادتها أقرب منه إلى أي شيء آخر» . أما الوحدة العربية فقد عنت عند حركة القوميين العرب « هدف الأمة العربية في تحقيق ذاتها لكنها أيضاً وسيلتها لإنجاز التحرير والثأر» وهي كذلك لأن الحركة « لم تر في الوحدة إلا جانبها المعبر عن القوة اللازمة لـ "الثأر" من اليهود » .

وكان من الطبيعي ألا تتنبه الحركة إلى المسألة الاجتماعية، وأن تتوجه أنظارها إلى مصر، بعد التأميمات الأولى وحرب السويس سنة 1956 « بذهول وإعجاب» كما فعل غيرها لاسيما وأن هذه الحرب حققت أول « ثأر» من إسرائيل. وكأن الحركة وجدت ضالتها الأيديولوجية، إذ لم تتردد بموالاتها للناصرية ولا بربط مصيرها بدولة الوحدة ومحاربة أي توجه وحدوي: « خشية أن تقود هذه الوحدة إلى تحويل مركز القوة في المنطقة إلى خارج إطار الجمهورية العربية المتحدة متخلية عن دعمها لأي توجه وحدوي. وفي هذا الإطار يأتي دفاعها سنة 1961عن استقلال إمارة الكويت عندما ادعى الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم بأن الإمارة المستقلة حديثاً جزء لا يتجزأ من العراق» . وإذا كان ثمة أيديولوجيا لـ « الحركة» فهي عقيدة « الثأر» بوسائل عربية. وهذه العقيدة هي الوحيدة التي اعتنقتها الحركة بعيداً عن التأثر بالعقائد الأخرى أو الاستعارات التي تفاعلت معها سياسياً أكثر مما رأت فيها أيديولوجيا. ورغم التقلبات الحادة فقد تمسكت القيادة التقليدية للحركة بهذه العقيدة حتى هزيمة حزيران سنة 1967 ولم تتنازل عنها قط، حتى أن التنظيم الفلسطيني الذي تأسس منه الجناح العسكري للحركة بدءً من أواسط الستينات إلى ما بعد الحرب بقليل أطلق عليه اسم « شباب الثأر ». وبكلمات جورج حبش: « .. الشعار الذي رفعناه وهو "وحدة.. تحرر.. ثأر" كان من أجل تحقيق الثورة السياسية، ولم نهتم بالثورة الاجتماعية... والتحرر في مفهومنا آنذاك لم يكن - التحرر الاجتماعي- وإنما التحرر السياسي... إننا اعتبرنا أن الإيمان بالأمة العربية وحقها في التحرر واسترداد فلسطين هو الحد الأدنى من الأمور التي يجب أن تلتف حوله القوى التي تتألف منها الجبهة » .

ثانيا: حركة القوميين من الاندماج إلى التفكك

تعرضت حركة القوميين العرب بعد حرب حزيران إلى حراك أيديولوجي نشط تمخض عنه ظاهرتين هما الانشقاق (عن) أو الاندماج (في) الحركة. وهنا تكمن أهمية الحركة وتميزها عن باقي التنظيمات الفدائية الأخرى. فقد مثلت الوعاء الأوسع للتيارات الأيديولوجية الماركسية والقومية غير البعثية. وفي ضوء ظاهرتي الانشقاق والاندماج سنعرض بإيجاز شديد لهوية المنظمات الفدائية ذات الصلة مع محاولة تقصي أسباب الانشقاق والاندماج.

 الأجنحة العسكرية والمنظمات الفدائية في الحركة عشية الكارثة وغداتها

1. الجبهة القومية لتحرير فلسطين (منظمة شباب الثأر)

تعتبر الجناح العسكري الأول لحركة القوميين العرب والأكثر تشدداً. وقد سبقت الإشارة، على لسان جورج حبش، إلى تكونها من عناصر التنظيم الفلسطيني في فروع الحركة. و مارست النشاط السياسي والعسكري منذ سنة 1964. وينظر إلى خالد الحاج أول شهيد للمنظمة قتل في 2/11/1964. وفي 1/5/1967 أعلنت عن هويتها. وانطلاقاً من هذا التاريخ يشار إلى نايف حواتمه زعيماً لها، وإلى صبيحة الخامس من حزيران/ يونيو سنة 1967 كأول موعد لها مع العمل العسكري. أي قبل يوم واحد من الحرب.

2. منظمة أبطال العودة

تتباين المعلومات لجهة الإعلان عن نشأتها في الساحة الفلسطينية، ويؤكد انصهارها في « شباب الثأر » تحولها إلى قوة ضاربة لحركة القوميين العرب. واتخذت من العاصمة السورية- دمشق مقراً لها. ويؤرخ لميلادها في خضم العام1967 ولكن قبل اندلاع الحرب. ويشار إلى العقيد وجيه المدني زعيماً لها.

3. ائتلاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

تشكلت بعد الحرب من ائتلاف من المنظمات والجماعات الفدائية. ويرد التاريخ 11/12/1967 في صدر بيان تأسيسي يحدد ميلادها. ويضم كل من:

• « التنظيم الفلسطيني» في حركة القوميين العرب.
• جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة ضابط سابق في سلاح الهندسة في الجيش السوري برتبة نقيب هو
أحمد جبريل.
• جماعة فلسطينية قومية مستقلة بقيادة أحمد زعرور.
• جماعة الضباط الوحدويون الناصريون .
• حركة التحرير الشعبية (حسب رواية خالد الحسن) .

 الانشقاقـات الكبـرى داخل الائتلاف والتنظيم الأم

1. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

باتت الجبهة الشعبية التي صدر أول بيان تأسيسي لها في 11/12/1967 الوريث الشرعي الوحيد لحركة القوميين العرب بعد انسحاب « القيادة العامة» بعناصرها وإطاراتها والانشقاق المعنوي الكبير للتيار الماركسي في صلب الحركة والذي استقل في صيغة الجبهة الديمقراطية. والسؤال الآن، كيف تحولت الحركة، إثر هزيمة حزيران، أيديولوجيا من تنظيم قومي - اشتراكي عربي إلى تنظيم ماركسي- لينيني؟ ثم كيف جرى التحول تنظيمياً من حركة متعددة الفروع إقليمياً إلى جبهة ذات معالم تنظيمية محددة ؟

أول ما يستوقف البحث هي الاجتماعات المكثفة التي دارت في صلب الحركة عقب حرب العام 1967 والتي مثلت انفجاراً حطم أيديولوجية القومية والاشتراكية العربية بكليتهما. فقد كانت حركة القوميين العرب أول حزب قومي يعترف بأن أيديولوجيته وبرنامجه السياسي قد هزما فتم التخلي للمرة الأولى، عن المفهوم الذي اعتبر الشعب « كلاً » واحداً، كما أنه تم التخلي عن الفرضية التي تعتبر « الناس أحراراً، وأنه لا يمكن التعديل على حرية الناس إلا إذا نظمت الجماهير نفسها .. ونجحت في خوض نقاشات ديمقراطية». وكانت النقطة المركزية في النقاشات الدائرة التي اعتمدت أدوات التحليل الماركسية قد لخصها « الكبيسي» وعلق عليها على النحو الآتي: « لا الحكومات التقدمية في مصر وسورية والعراق والجزائر ولا « حزب البعث» و « حركة القوميين العرب » ولا الأحزاب الشيوعية تمثل مصلحة الجماهير. فهؤلاء يمثلون مصالح الطبقة البرجوازية الصغيرة التي هزم برنامجها السياسي في حرب حزيران»، كما أشارت النقاشات « إلى الحكومات البرجوازية الصغيرة التي كانت لها مصلحة في تقليص الإقطاعيات الكبيرة والرأسمالية والتي ليست لها مصلحة في حكم البلاد بصورة ديمقراطية خشية تعرض الامتيازات الجديدة التي اكتسبتها للخطر.. فضلاً عن أن هذه الامتيازات قد جعلت أنظمة البرجوازية الصغيرة غير قادرة على استمرار الحرب ضد إسرائيل حتى النهاية». ويستنتج « الكبيسي»: « أن تاريخ أنظمة العسكر في الأقطار العربية لا يدعم الفرضية التي ترى أنها تمثل مصالح الطبقة البرجوازية الصغيرة. وعلى العكس من ذلك فإن هنالك سبب للاعتقاد بأن هذه الأنظمة تعمل ضد مصلحة قطاعات كبيرة من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى» .

وقد توجت النقاشات بإصدار اللجنة التنفيذية لحركة القوميين العرب البيان السياسي الشهير في شهر تموز/ يوليو سنة 1967، وفيه نلحظ، للمرة الأولى، التمييز بين نمطين من الاستعمار، الأول: هو الاستعمار التقليدي الذي يتدخل عبر قواته العسكرية بشكل مباشر والثاني: الذي يستعمل لتحقيق أهدافه قوى أخرى تابعة أو حليفة دون أن يلجأ إلى استخدام قواته إلا إذا عجزت أدواته المحلية. هذا التمييز، ودون تخوينها، يجعل من البرجوازية الصغيرة التي تحملت عبء القيادة موضع مساءلة وتقييم لجهة دورها القيادي قبل الهزيمة ومدى قدرتها على إنجاز المهمات التي اضطلعت بها. وبما أن الهزيمة أثبتت فشلها في الاضطلاع بالدور القيادي فهذا يعني أنها غير مؤهلة لاستمرار دورها الطليعي. لهذا فإن المسألة الآن « تتطلب انتقال مقاليد القيادة إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة» لأنها « الأكثر جذرية في مقاومة الاستعمار وحلفائه المحليين بحكم مصالحها وطبيعة أيديولوجيتها، وتحت هذه القيادة سوف يكون على البرجوازية الصغيرة وكل العناصر والقوى الوطنية والتقدمية أن تسهم بدورها في معركة التحرر الوطني» . ولهذا طالب البيان حركة التحرر العربية أن « تحدث تغييراً أساسياً في مستوى جذرية تفكيرها العلمي وجماهيرية تكوينها الاجتماعي وصلابة بنيتها التنظيمية واستراتيجيتها وأساليب نضالها». ونجح شعار « الكفاح المسلح »، بطابعه القومي، في استيطان البيان القومي للحركة، فجاء فيه: « أن العنف الثوري ما هو إلا التعبير الحقيقي المعاصر عن استراتيجية المجابهة الكاملة والحاسمة للاستعمار بصفته آخر مراحل الإمبريالية » .

وانطلاقاً من البيان نفسه سعت الحركة إلى التهيؤ للقاء المنظمات الفدائية في إطار جبهة تضم مختلف الفصائل الفلسطينية لسببين الأول: لأن وجود هذه الجبهة عامل أساسي من عوامل الانتصار. والثاني: لأن منظمة التحرير الفلسطينية. بطابعها الرسمي، لا تصلح لتشكيل هذا الإطار . وعلى خلفية « ثبوت صحة المواقف والتحليلات التي قدمتها العناصر اليسارية، وخطأ المواقف التي طرحتها العناصر اليمينية، من خلال التجربة» قامت الحركة باستبدال هيئات حركة القوميين العرب المركزية، بمكتب « تنسيق بين أقاليم الحركة وفروعها على امتداد المنطقة العربية» ، وعلى أرضية الكفاح المسلح ووحدة العمل أعلن عن تشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصدر البيان السياسي الأول للجبهة في 11/12/1967. وأكد أن: « الظروف الموضوعية نضجت إلى الحد الذي يفسح المجال لرفع شعار الكفاح الشعبي المسلح وممارسته حتى آخر مدى له في معركة طويلة وقاسية لابد أن تتحقق في نهايتها إرادة الجماهير وأمانيها». ولكن على عكس البيان القومي جاء البيان السياسي للجبهة ذو محتوى قطري صارخ للمرة الأولى في تاريخ حركة القوميين العرب: « أيها المناضلون في كل مكان على الأرض الفلسطينية. أيها العمال والفلاحون، يا فقراء شعبنا ونازحيه، أيها الطلاب المثقفون، أيها الموظفون والتجار هذه هي البداية ترفع فيها جبهتكم رايات الفداء والصمود والتحدي» . وقد عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرها الأول في شهر آب/ أغسطس سنة 1968.

وبعد نقاشات محمومة قبل المؤتمر وبعده نجح التيار الماركسي في صبغ التقرير السياسي بصبغته. فأدان الطبقة الإقطاعية والبرجوازية والبرجوازية الصغيرة وتركيبة المجلس الوطني الفلسطيني والأنظمة التقدمية وأيديولوجيات حركة المقاومة بما فيها الجبهة الشعبية واستبعاد الطبقات الأكثر ثورية وجذرية في المجتمع عن المسؤولية أو حتى المشاركة فيها. واعتبر التقرير أن أزمة المقاومة طوال الخمسة عشر شهراً (حزيران/ يونيو1967- آب/اغسطس 1968) بأنها نتاج « أزمة التكوين الأيديولوجي والطبقي والسياسي لكافة فصائل المقاومة»، وقد وافق المؤتمر بالإجماع على التقرير الذي من بين ما أوصى الاعتماد على: « أيديولوجية ثورية علمية ( أيديولوجية البروليتاريا ) معادية للاستعمار والصهيونية والرجعية والتخلف... تتسلح بها الجماهير وتعتمد بالأساس على الطبقات الأكثر جذرية وثورية في المجتمع » . ولكن هذا الإجماع لم يدم حتى نهاية العام، إذ انسحبت جماعة أحمد جبريل وكافة عناصر وإطارات جبهة التحرير الفلسطينية، ثم جماعة أحمد زعرور. وأخيراً الجناح الماركسي في الجبهة مشكلاً تنظيماً مستقلاً. وعلى الفور انعقد المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية في شهر شباط/ فبراير سنة 1969 وفيه أعلنت الجبهة مجاهرتها بتبني النظرية الماركسية اللينينية وأقرت وثيقة « الاستراتيجية السياسية والتنظيمية»، وقبل ذلك كانت الجبهة في إطار حركة القوميين العرب، تسترشد بمناهج التحليل الماركسي أما الآن فقد أصبحت تنظيماً محدد المعالم، وفي حقل الماركسية، ولكن أية ماركسية؟

من الأهمية القول، بما لا يدع مجالاً للشك، أن نوع الماركسية التي ستختارها الجبهة الشعبية ستؤدي إلى تميزها عن سائر المنظمات الفلسطينية والأحزاب الشيوعية العربية ذات النهج الماركسي اللينيني، فالجبهة تتوخى الحذر من السقوط في ماركسية مشوهة أو منسوخة فتصبح مثل « الطفوليين اليساريين» الذين لم يستوعبوا النظرية فنسخوها. لهذا فقد التقطت « الاستراتيجية السياسية والتنظيمية» حقيقة الماركسية اللينينية « كدليل للعمل وليست عقيدة ثابتة وجامدة» . وليست هذه الانطلاقة إلا لأن « استراتيجية وتكتيك وأشكال نضال البروليتاريا الطبقي متنوعة للغاية، فهي تتحدد بالظروف التاريخية العيانية الداخلية والدولية، وبدرجة نضج الطبقة العاملة وحلفائها» . وبما أن الواقع الفلسطيني يمر بمرحلة تحرر وطني فقد سئلت الجبهة الشعبية عن نوع الماركسية التي تتلاءم مع الواقع، فأجاب جورج حبش: « إني أفكر في ماركسية الماركسية الآسيوية، ماركسية الأحزاب الصينية والفيتنامية، كما أفكر في ماركسية الحزب الشيوعي الكوبي، حيث الإصرار على أولوية الكفاح المسلح، لأن الجماهير يمكن أن تعبأ فقط حول قضية القتال من أجل التحرير» . ومن الملاحظ أن الجبهة الشعبية تعتمد على الماركسية- اللينينية في تأطير نشاطها السياسي والعسكري والحزبي، ولكن في ضوء التجارب الثورية الآسيوية واللاتينية وبالذات التجربة الصينية أو الفكر الماوي. فعلى المستوى التنظيمي للجبهة تحتل موضوعتا الكفاح المسلح وبناء الحزب المرتبة الأولى وتدخلان في علاقة جدلية على أساس أن « كل عضو سياسي في الجبهة مقاتل، وكل مقاتل سياسي» . أما على المستوى السياسي فالإستراتيجيا تقوم على طرح السؤال الماوي الشهير: « من هم أصدقاؤنا ؟ ومن هم أعداؤنا؟ ».« إن شرطاً أساسياً من شروط النجاح هو الرؤية الواضحة للأمور، والرؤية الواضحة للعدو، والرؤية الواضحة لقوى الثورة، وعلى ضوء هذه الرؤية تتحدد استراتيجية المعركة، وبدونها يكون العمل الوطني عفوياً ومرتجلاً... » .
أما اختيارها لـ «الماوية» كنهج عملي فلا يلغي هويتها. وعلى العكس من ذلك فقد حدد المؤتمر الثالث للجبهة الذي عقد في شهر آذار/ مارس سنة 1972 هويتها في النظام الداخلي مشيراً بأنها: « حزب سياسي مقاتل يلتزم بالماركسية - اللينينية كنهج علمي في رؤية المعركة وقواها المتصارعة وتحديد أسلوب التعبئة والمواجهة. وتمثل طليعة الطبقة العاملة الفلسطينية وحزبها السياسي المقاتل الذي يعبئ هذه الطبقة ويهيئها لتأدية دورها التاريخي في تحرير نفسها وتحرير جماهير الشعب، وتمثل الصيغة التنظيمية لتعبئة العناصر الطليعية من طبقة الفلاحين والبرجوازية الصغيرة والمثقفين والجنود، وتضم على أساس الاختيار الحر العناصر الأكثر تقدمية وأكثر تصميماً واستعداداً للتضحية» .

ظاهـرة الانشقـاق في الجبهـة الشعبيـة

في التاسع عشر من شهر آذار/ مارس سنة 1968، بعد أربعة أشهر على تشكيل الجبهة الشعبية، توجه جورج حبش إلى دمشق بناءً على دعوة لإجراء محادثات سياسية تتعلق، على الأرجح، بالتفاوض حول فتح الحدود السورية الشمالية (هضبة الجولان المحتلة) أمام المنظمات الفدائية لشن هجمات حربية على إسرائيل. ولعله (الحكيم) لم يكن يدري أنه استدرج سياسياً إلى كمين أمني أدى إلى احتجازه بأمر من عبد الكريم الجندي رئيس المخابرات السورية الذي أودعه السجن طيلة سبعة أشهر ونصف الشهر، ولم يتمكن من الإفلات إلا يوم 14/11/ 1968 عبر كمين محكم أعده الدكتور وديع حداد أحد مساعديه المخضرمين سياسياً وعسكرياً وزميله في الدراسة. ولا شك أن فشل الوساطات في الإفراج عن الحكيم أدى إلى حسم الموقف داخل الجبهة الشعبية لوضع حد لاحتجازه، ولا شك أن اختيار « حداد» أكبر الأعمدة العسكرية الجبارة في الجبهة لتحرير الحكيم لا يمكن أن يفسر إلا في ضوء التطورات التنظيمية والسياسية الخطرة جداً التي مرت بها الجبهة ومنها قضايا الانشقاق. فما الذي ترتب على غيبة الحكيم؟

• انفصال جبهة التحرير الفلسطينية. وحسب رواية أحمد جبريل فإن القيادة العامة للجبهة الشعبية اجتمعت وقررت فصل « شباب الثأر » بدعوى العمل الحزبي واستعداء بعض الأنظمة العربية (سوريا). وإذا كانت الجبهة الشعبية هي التي سعت إلى الوحدة مع المنظمات الفدائية إثر حرب حزيران فإن جبهة التحرير هي التي وجهت الدعوة للقاء المنظمات، لذا ليس غريباً أن تتخذ جماعة أحمد جبريل تسمية لها تظهرها بأنها الأصل وليست منشقة وتحتكر القيادة مستبعدة في ذلك باقي الائتلاف في الجبهة الشعبية. فهي « الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وهي « القيادة العامة» لها. بيد أن الوقت لم يطل بها حتى استقلت في صيغة تنظيم محدد.

• انفصال آخر قامت به جماعة أحمد زعرور الذي شكل، في الأردن، « منظمة فلسطين العربية».
ويشار إلى خروج هاتين الجماعتين بضغط مارسه التيار الماركسي- اللينيني في الجبهة (مجموعة نايف حواتمه)، كما تم بتدخلات « فتحاوية» (نسبة إلى حركة « فتح») وأردنية .ومن الواضح، في ظل الانشقاقات وغيبة الحكيم بات مجال التفاعل تحت هيمنة ملحوظة للتيارات الماركسية التي يتصدرها نايف حواتمه.

• انعقاد الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة في الفترة ما بين 10- 17 تموز/ يوليو سنة 1968 وتسليم قيادة المنظمة لحركة « فتح» بعد استقالة الشقيري.

• تملص سوريا من ضغوط الجبهة الشعبية لفتح الحدود أمام العمل الفدائي الذي يشكل أكبر المشكلات آنذاك للمنظمات الفدائية الفلسطينية خاصة إزاء الاندفاع الكبير والقوي الذي تمخض عن ظهور الجبهة الشعبية وقدرتها على توحيد المنظمات الفلسطينية المسلحة في إطار جبهة تتجاوز مؤسسة منظمة التحرير « صنيعة العرب».

• وقوع معركة الكرامة جنوب الاردن بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني من جهة والقوات الإسرائيلية من جهة أخرى في 21 آذار/ مارس سنة 1968. أي بعد يومين من اعتقال جورج حبش، وقد أجبرت إسرائيل على الانسحاب بعد أول هزيمة عسكرية قاسية تلقتها منذ قيامها. ومن المشكوك فيه ألا تكون سوريا على علم بوقوع المعركة قبل يومين لاسيما وأن الأردن علم بها وأبلغ ما لديه من معلومات للفدائيين. وأكثر ما يلفت الانتباه في نتائج معركة الكرامة هو التأييد الشعبي الساحق الذي حظي به الفدائيون والبروز الكاسح للمنظمات.

كل هذه التحولات حدثت في فترة احتجاز الدكتور جورج حبش. ومن المتعذر تبرير احتجازه بـ « صدفة سيئة» إلا إذا كان فيصل جلول يعني بها « خدعة» قصد منها تحييد الحكيم بكل ما يمثله من تراث نضالي وخبرة في القيادة والعمل السياسي. لإضعاف الجبهة الشعبية المنافس القوي لحركة « فتح» التي تحظى بدعم سوري وجزائري. ولتسليم « فتح» قيادة المنظمة بوصفها صاحبة « الرصاصة الأولى» و« الشرعية التاريخية»، وبالتالي فهي الأحق بقيادة المنظمة والكفاح المسلح الفلسطيني. فماذا لو ظل « الحكيم» طليقاً ؟ وحافظت الجبهة الشعبية على تماسكها ووحدتها؟ هل كان من الممكن أن تنعقد الدورة الرابعة للمجلس الوطني؟ وهل ستنجح « فتح» في تسلم قيادة المنظمة في ظل مشاركة وحضور قوي للجبهة الشعبية؟ أسئلة في ظل التكتم وغياب المعلومات الدقيقة تبقى عرضة للإثارة باستمرار. ومع ذلك يمكن تبرير تسلم « فتح» للمنظمة من خلال التمييز الأيديولوجي بين المنظمات وعلاقتها بالأنظمة السياسية العربية، أو من خلال الأيديولوجيا والتركيب الاجتماعي للمنظمة، وسيرد تفصيل ذلك حين البحث في « حركة فتح». أما السؤال الذي نطرحه الآن، فهو: ماذا فعل الحكيم بعد خروجه من السجن؟

وقعت الانشقاقات الأولى في الجبهة على خلفية التقرير السياسي الذي صدر عن المؤتمر الأول للجبهة (1968). وفي سعيه إلى إعادة توحيد الجبهة وإزالة أسباب الخلاف رفض جورج حبش التقرير وبادر بالاتصال بالمنشقين، وما كان لهذه المبادرة أن تنجح لاسيما وأن القوى السياسية التي دعمت الانشقاق باتت فاعلاً استراتيجيا في استمراره. ولما ثبت لـ « الحكيم» عجزه عن إعادة البناء أدرك أنه بانتظار مواجهة أخرى حاسمة « لم تطل» مع التيار الماركسي الذي يتزعمه « حواتمة » بمساعدة محسن إبراهيم الشخصية الأقوى في فرع حركة القوميين العرب في لبنان ، فضلاً عن أنه الفرع العربي الأقوى من بين فروع الحركة العربية. وإزاء إصرار التيار الماركسي على خوض الصراع حتى النهاية (عدم التراجع عن الماركسية- اللينينية) خشي « الحكيم» على هيبة الجبهة الشعبية فدخل في صراع مسلح قتل فيه أحد المنشقين . وأدى هذا الحادث إلى انفجار الاتهامات التي وجهت إلى الحركة والجبهة والتي وصفتها بـ « الفاشية» و « الإرهابية». وانتهى الصراع بلا « طلاق ديمقراطي» ، وأصبحت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين واقع تنظيمي مستقل ووريثة شرعية لحركة القوميين العرب التي شكل انشقاق « حواتمة » عنها ضربة قاسمة لها ، فيما عدا لبنان حيث تقاسمتها الجبهتان في شكل بنى حزبية:
• حزب العمل الاشتراكي العربي الذي انشق عن منظمة الاشتراكيين اللبنانيين، ومثّل الحزب الماركسي - اللينيني للجبهة الشعبية برئاسة جورج حبش ورعاية الجبهة الشعبية.
• منظمة الاشتراكيين اللبنانيين التي اندرج ما تبقى منها مع تنظيم لبناني ماركسي هو منظمة العمل الشيوعي برئاسة نايف حواتمه ورعاية الجبهة الديمقراطية.

انشقاقــات أخـرى:

انشقاق الجبهة الثورية لتحرير فلسطين

تعود أصولها إلى مجموعة قيادية في الجبهة الشعبية. وقد ظهرت بهذا الاسم عشية انعقاد المؤتمر الوطني الثالث للجبهة والذي انعقد في الفترة ما بين 6-9 آذار/ مارس سنة 1972. وتبين أنها نتاج لانشقاق قاده أحمد فرحان المكنّى بـ « أبو شهاب» وهو عراقي الأصل. ولتبرير الانشقاق استعمل أبو شهاب عبارات « اليمين واليسار» إشارة إلى وصف الأغلبية في الجبهة بـ « اليمين» فيما اعتبر جماعته « اليسار»، والمشكلة الأساسية تتلخص في رؤية المجموعة المنشقة باستحالة « تحول الجبهة الشعبية من تنظيم برجوازي راديكالي صغير إلى تنظيم يساري ثوري دون الانشقاق للتخلص من اليمين»، وبخلاف ذلك فإن « حجم التنازلات التي يطمح اليمين إلى تحقيقها لكي يستمر في التعايش مع اليسار هو أن تكون هناك أوضاع تنظيمية تكرس استمرار هيمنته على أوضاع الجبهة» . ومن الملفت للانتباه أن هذه المبررات هي ذاتها التي عبرت عنها الجبهة الديمقراطية حين انشقاقها كما جاء في بيان الانشقاق . إلا أن الانشقاق الجديد لم يعمر طويلاً، وانتهت الجبهة الثورية إلى طريق مسدود خلال فترة قصيرة، وتوزع أعضاؤها على منظمات المقاومة فيما عاد قسم منهم إلى الجبهة الأم .

وفي ختام المؤتمر الثالث للجبهة علق « الحكيم» على ظاهرة الانشقاقات المتكررة داخل الجبهة الشعبية مبدياً « أسفه وألمه وفهمه لها» ويبدو أن تفهم « الحكيم» نابع من « الرؤية الواضحة للأمور»، ليس دفاعاً ولا تبريراً، ولكن إقراراً بواقع معين يفسر فيه الانشقاق بـ « أن الجبهة الشعبية في هذه المرحلة وكونها تنظيماً يسارياً راديكالياً لم تكتمل عملية تحوله إلى حزب ماركسي لينيني هو عامل ذاتي أول ما يؤدي إلى مثل هذه الظواهر، يضاف إلى ذلك عامل النزق والنفس القصير والمزايدة التي تتحكم عادة بتصرفات البعض تحت ستار اليسار والماركسية – اللينينية، كذلك فإن الأزمة التي تعيشها حركة المقاومة، ومحاولات ضرب منظمات المقاومة من الداخل التي تقوم بها بعض الدول العربية هي عوامل موضوعية أخرى تشابكت مع العوامل الذاتية الداخلية» . ومن جهته يشير ناجي علوش إلى انشقاقين آخرين هما:

الأول: انشقاق مجموعة وليد قدورة سنة 1976، وهذه تمثل، كما تقول الجبهة الشعبية، « تياراً يسارياً انتهازياً». إلا أن الجبهة تصدت لهذه المجموعة وفصلتها، وعلى رأسها وليد قدورة الذي مارس « دوراً تخريبياً داخل الجبهة ولفترة طويلة بتوجيه من أجهزة المخابرات، لابسا قناع اليسار الذي استطاع أن يخفي وراءه دوره التخريبي ردحاً طويلاً من الزمن». والثاني: فصل وديع حداد أحد مؤسسي حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية، الذي « أخذت موضوعاته وقتاً وجهداً كبيرين من هيئات الجبهة المركزية»، حتى أمكن فصله، بعد أن خيض الصراع « على أسس مبدئية وموضوعية، والابتعاد عن التشنج، وأخذ الواقع بعين الاعتبار والتعاطي بنفس بروليتاري طويل، مع تمردات الرفيق الشهيد وديع حدادوعدم انضباطيته وفوضويته»، وأدى هذا إلى التخلص« من رجل يميني معرقل لمسيرة التحول» .

وفي سنة 1983 تم فصل بسام أبو شريف عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية والناطق الرسمي باسم اللجنة القيادية المشتركة التي تشكلت من الجبهتين الشعبية والديمقراطية على خلفية الانشقاق في حركة « فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية. واتخذ قرار الفصل بسبب تأييده لزيارة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للقاهرة، بعد رحيل حركة « فتح» عن لبنان، والتقائه الرئيس المصري محمد حسني مبارك للمرة الأولى بعد توقيع مصر لاتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع إسرائيل سنة 1979.

2. الجبهـة الديمقراطيـة لتحريـر فلسطيـن

هي أول المنظمات المنشقة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذراع العسكري القوي لحركة القوميين العرب. إذ أن القوى الأخرى التي ائتلفت مع الحركة في الجبهة الشعبية هي في واقع الأمر تنظيمات مستقلة فيما عدا « شباب الثأر » و « أبطال العودة» و « التنظيم الفلسطيني». وقد أعلن عن تأسيسها في 22/2/1969، وظلت تحمل اسم « الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين» حتى سنة 1975 حيث أسقطت لفظة « الشعبية »، وتزعمها نايف حواتمه الأمين العام لها، والمعروف أن انشقاقها أسفر عن تفكك حركة القوميين العرب. وتعتبر الجبهة الديمقراطية، بلا منازع، أول منظمة فلسطينية تعلن التزامها الصريح بالماركسية -اللينينية وترى أن نشأة اليسار الجديد، الفلسطيني والعربي، يرتبط بنشأتها هي. ولقد سبقت الإشارة إلى أن هذا التيار بدأ يغزو حركة القوميين العرب منذ سنة 1961 متأثراً بالتحولات الطبقية وتطورات المسألة الاجتماعية التي شهدتها مصر والجمهورية العربية المتحدة وما بعد الانفصال. وفي شهر آب/ أغسطس سنة 1968 عقدت الجبهة الشعبية مؤتمراً لها استطاع الماركسيون فيه فرض أطروحاتهم الأيديولوجية، ودعا المؤتمر في التقرير السياسي إلى « تبني الماركسية كنهج عمل لأن أيديولوجيا البرجوازية الصغيرة أظهرت أنها غير قادرة على حل المعضلات التي يطرحها التحرر الوطني. ولا بد من الانحياز إلى جبهة الكفاح الطويل الأمد الذي يبدأ بالتسلح بسلاح الأفكار الثورية؛ أفكار الطبقات الثورية في أي مجتمع الأكثر ثورية وجذرية، والتي لا مصلحة لها في المهادنة ولا في التراجع. لأنها ستكسب كل شيء: الوطن والأرض والاستقلال السياسي والاقتصادي الحقيقي» .

وحين انشقاقها اعتبرت أن التقرير السياسي هو « الأساس الفكري والسياسي الذي بنت عليه الجبهة الديمقراطية .. استقلالها الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي» . وفي أوائل سنة 1972 حددت الجبهة هويتها ونهجها في النظام الداخلي الصادر عن اجتماع المجلس الوطني العام (الكونفرنس) في شهر تشرين ثاني/ نوفمبر سنة 1971. وحسب أرقام النظام ورد ما يلي:

«1. الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، هي جبهة يسارية موحدة فلسطينية- أردنية تضم الفصائل المتقدمة من الشعب الكادح... الخ
3. إن النواة القائدة تسترشد بالماركسية كدليل عمل وتعمل لتطبيقها بحيوية على الواقع الأردني- الفلسطيني من أجل بناء حزب ماركسي لينيني يقود الجبهة والتحالف الديمقراطي للثورة.
6. إن الجبهة الشعبية الديمقراطية ونواتها القائدة تلتزم على أساس الأممية البروليتارية ... من أجل توثيق التحالف وتعزيزه بين الثورة الفلسطينية وكافة القوى الثورية على نطاق العالم ... كضرورة واقعية وتاريخية ... ولبناء جبهة صدام واسعة ضد الإمبريالية على نطاق العالم» .

والآن ما هي أسباب الانشقاق إذا كانت الجبهة الشعبية قد وافقت على (بيان آب 1968) بالإجماع كما يشير إلى ذلك ناجي علوش؟ إن بيان الانشقاق ينطلق من أنه: « لا يمكن تحويل مؤسسة برجوازية يمينية أو برجوازية صغيرة إلى موقع يساري ثوري بكاملها» . كما يشير البيان إلى مشاكل تنظيمية تمثلت « بفرض القيادات المهترئة والمتخلفة التي انهارت كلياً عام 1966 ( أي في السجون الأردنية ) وبذلك كرست الإطارات الفاشلة تاريخياً والمنهارة عام 1966 على رأس تنظيمات الجبهة». وحاربت « القيادة اليمينية»، « دخول أية رياح ثورية للتغيير الثوري .. وعملت على تدعيم مراكز القوى والإقطاعات الخاصة والشلل وعبادة الفرد .. وفرضت بقوة السلاح قيادة توفيقية .. ولجأت إلى العنف بدلاً من عقد مؤتمر ديمقراطي أو القبول بالطلاق الديمقراطي» . ولقد قابل الصحافي اللبناني طلال سلمان كلا من « حواتمة » و « حبش » للتنصت على أسس الخلاف بينهما، ونشر تحقيقاته سنة 1969 في كتاب بعنوان: « مع فتح والفدائيين». فجاء تعليق «حبش» على أطروحات الماركسية قبل الانشقاق محذراً من: « إن اللغة التي يستخدمها "الإخوان" جديدة وغريبة على آذان الجميع، إنهم ينسون الواقع تماماً. فيركزون أحاديثهم وعملهم على ضرورة تغيير الصراع الطبقي، بينما نحن نريد أن نجر المزيد من قطاعات الشعب إلى ساحة القتال. ماذا يمكننا أن نقدم للقضية إذا كنا محاصرين؟! إن منطق الإخوان سيعزلنا عن الجميع، حتى عن ذوي المصلحة الحقيقية في الثورة، هل تعتقد أن أبناء المخيمات سيلبون نداء الثورة البروليتارية ؟ أبداً».
أما نايف حواتمه فلا يرى إلا العكس تماماً: « .. كنا نريد تفجير ثورة كفيلة بتحرير فلسطين، علينا أن نبني حزبنا الثوري الماركسي اللينيني. ففي غياب مثل هذا الحزب لا يمكن تحويل حركة المقاومة إلى ثورة حقيقية، إن نوعية المقاتل هي التي تحدد قدرته على إحراز النصر، وفي فيتنام ينتصر الثوار لأن نضالهم يرتكز إلى قاعدة فكرية ثورية.. إما أن تكون طليعة ثورية عربية تحريرية شاملة أو لا تكون شيئاً» .

ولعله يقصد ذاته عندما يشير فيصل جلول، لِمَن عرف حركة القوميين العرب في آخر حياتها، أن: « الذين عاصروا ظروف انشقاق حواتمه يعرفون أن الامكانات التي استند إليها في تأسيس جبهته كانت في حدود الصفر تقريبا» ، وهذا « الصفر» يساوي عند « ممدوح»، القائد العسكري للجبهة، « ستة عشر شخصاً في الأيام الأولى» ! وهذا صحيح من حيث الواقع. بيد أن مجموعة حواتمه حظيت بدعم خارجي تمثل في حركة « فتح» وفي منظمة الاشتراكيين اللبنانيين التي يتزعمها محسن إبراهيم وبقوى عربية رسمية وحزبية، ولهذا تضخم « صفر جلول» إلى الحد الذي جعله يفاخر بلقب « اليسار الفلسطيني أو العربي الجديد»، و وأد حركة القوميين العرب.

اندماج منظمات أخرى

على خلفية انشقاق الجبهة الديمقراطية وتبنيها للتقرير السياسي انضمت منظمتين للجبهة في شهر حزيران/ يونيو سنة 1969 هما عصبة اليسار الثوري الفلسطيني والمنظمة الشعبية لتحرير فلسطين وأبرز قادتها عبد اللطيف أبو جبارة وحمزة البرقاوي ويسار عسكري والعقيد سمير الخطيب والعقيد عبد العزيز الوجيه رئيس أركان جيش التحرير . وعن «الأخيرة» يشار إلى أنها تأسست سراً عشية انعقاد الدورة الأولى للمجلس الوطني الفلسطيني (أيار/ مايو 1964) واشتملت على ثلاث مجموعات تكونت من أعضاء سابقين في الحزب الشيوعي الأردني ويساريين فلسطينيين في سورية ووطنيين فلسطينيين في سورية. وقد ظهرت المنظمة إلى العلن في أعقاب المؤتمر الثاني لها (1968) إثر خلافات جذرية محورها الاندماج بالمنظمات اليسارية الفلسطينية أو عدمه. وقد اعتنقت المنظمة الماركسية اللينينية نهج عمل. وهي أقرب إلى الجبهة الشعبية من قربها للجبهة الديمقراطية. ومع ذلك فقد انضم أغلبية أعضائها إلى الأخيرة في 5/6/ 1969 فاضطر بقية الأعضاء إلى إصدار بيان يسقط صفة الأغلبية، إلا أن نشاط المنظمة توقف منذ أواخر العام 1970 .

2. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة-

يمكن اعتبارها واحدة من أقدم المنظمات الفلسطينية. وقد تكونت سنة 1959 وضمت نحو ثلاثين تنظيماً حسب رواية الدكتور جورج سالم حجار. وعرفت في حينه باسم « جبهة التحرير الفلسطينية». وقبل اتحادها مع الجبهة الشعبية « طلبت الوحدة مع حركة فتح، وبعد أن تمت رفض السيد أحمد جبريل قرار المرحوم علي بشناق (أن يكون أحمد جبريل عضواً في المجلس العسكري وعلي بشناق عضواً في اللجنة المركزية لحركة فتح) وألغى الوحدة مع فتح». هكذا يروي خالد الحسن أحد قادة حركة « فتح » . وما يلفت الانتباه أن نشأة جبهة التحرير كانت عقدية فيما يتصل بدعوتها إلى «الكفاح المسلح»، غير أنها عجزت عن مباشرته إلا في منتصف العام 1966 وإلا لكانت صاحبة « الرصاصة الأولى» عوضاً عن حركة « فتح». أما سعيها للوحدة مع هذه الأخيرة فتبدو مبررة للغاية، إذ أن « المبادئ الائتلافية» الستة التي طرحتها سنة 1959 كبرنامج عمل تكاد تتطابق مع أطروحات حركة « فتح» خاصة في « الأول» الذي يعتبر أن « الشعب العربي الفلسطيني هو المسؤول الأول عن قضيته، ومن خلفه الشعوب العربية» في حين يؤكد « الثالث» على « تحريم التكتل والنشاط الحزبي ضمن صفوف الجبهة» . وهو المبدأ الذي يزعم أحمد جبريل أنه السبب في انشقاق « القيادة العامة» عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فضلاً عن استعداء بعض الأنظمة العربية (سوريا) . وإثر انشقاق « القيادة العامة» في شهر تشرين أول/ أكتوبر سنة 1968 عقد المؤتمر الأول للجبهة في ذات العام وأقرت برنامجاً سياسياً أطلق عليه اسم « الميثاق». وعرفت الجبهة نفسها بأنها: « تنظيم جماهيري مستقل يرتكز (أولاً) على انفتاحه الكامل لكل تلك العناصر الشريفة العربية المناضلة، وليس تنظيماً مغلقاً متقوقعاً على نفسه و(ثانياً) على عدم ارتباطه بأي حزب أو حركة سياسية أخرى، ولا يقبل في عضويته أي عضو أو عنصر ملتزم مع أي حزب أو حركة أو تنظيم آخر، ولكنه يقبل انضمام أي عنصر يلتزم فقط بمبادئ الجبهة».

ومثل غيرها من المنظمات الفلسطينية كانت الوثائق الأولى لها تعبر عن الحاجة إلى وضوح في المواقف السياسية العاجلة. فكانت تُخَطُّ بـ « عفوية وارتجال». وانعقد المؤتمر الرابع (آب/أغسطس1973) بينما كانت الجبهة تشعر بفراغ أيديولوجي خانق. فأقرت « برنامجاً سياسياً متكاملاً » أكد في أول بنوده على قيمة النهج الفكري والبرنامج السياسي في تاريخ الثورات الوطنية « فلا ثورة بدون نظرية ثورية» لأن « النهج الفكري يسلح الثورة باستراتيجية واضحة»، ولأن « ثورة ترتبط بمصلحة الإنسان التي هي كل لا يتجزأ في كل مكان من العالم» فلا بد من أن تنتهج « خطاً يسارياً ثورياُ يعتمد أيديولوجيا الطبقة العاملة، نظرية الشعوب المقهورة والمستغلّة للتخلص من قهرها القومي وظلمها الاجتماعي». ومما لا يلفت الانتباه، ربما بسبب العفوية والارتجال، أن الجبهة كانت قد تبنت « الاشتراكية العلمية» منذ المؤتمر الثاني . كما أنها انشقت بسبب العمل الحزبي ثم عادت وآمنت « بقيادة فكر الطبقة العاملة وحزبها الطليعي المتميز تنظيمياً وأيديولوجياً »!

انشقاق « القيادة العامة»:

جبهة التحرير الفلسطينية

انشقت عن الجبهة الشعبية- القيادة العامة سنة 1976 واستعادت الاسم التاريخي للجبهة الأم. ولا يتوفر لدينا معلومات رسمية موثقة عن أسباب الانشقاق غير أن ما يلفت الانتباه أنها تبنت المؤتمرات السابقة لـ « القيادة العامة» وعقدت مؤتمراً خامساً في الفترة ما بين 30/9 – 3/10/1979، وغالباً ما تحدثت أوساط في حركة « فتح» عن دعم الانشقاق بسبب انحياز « القيادة العامة» إلى القومية السياسية ممثلة بليبيا وسوريا، وما يدعم هذه الفرضية أن الجبهة المنشقة دافعت عن القطرية الفلسطينية ورأت أن النضال لتحرير فلسطين لا « يمت للشوفينية العرقية أو القومية بأية صلة». كما عبرت عن رغبتها في تشكيل الجبهة الوطنية المتحدة على الصعيد الفلسطيني لأنها « الشكل الأرقى لوحدة وطنية فلسطينية» إطارها « منظمة التحرير الفلسطينية». وهذه الجبهة « هي الأداة الوحيدة القادرة على إخراج مجمل المقاومة من خط الاحتواء والوصاية، وهي الأداة الوحيدة التي تحفظ القرار الوطني الفلسطيني فلسطينياً بعيداً عن الهيمنة ومحاولات فرض المواقف التي تتناقض في جوهرها مع خط النضال الذي اختطه شعبنا العربي الفلسطيني لتحرير وطنه.. » .

إن هذه المواقف للجبهة المنشقة تعبر، في الواقع، عن فكر حركة « فتح»، ولما كان الأمر كذلك، وبخلاف الموقف التنظيمي للجبهة الأم التي باتت تؤمن ببناء الحزب الطليعي، فإن (ج. ت. ف) لا تطرح قضية الحزب. بل تتعامل مع الساحات الفلسطينية والعربية النضالية بمنطق جبهوي يقوم على احتفاظ كل طرف من أطرافها بحقه « في التنظيم والتعبئة والاعتقاد الأيديولوجي والتعبير» .

وإثر الانشقاق الذي تعرضت له حركة « فتح» سنة 1983 ومن خلفها منظمة التحرير الفلسطينية انشقت جبهة التحرير الفلسطينية مع انعقاد الدورة السابعة عشرة سنة 1984 للمجلس الوطني الفلسطيني ، وخرج محمد عباس (أبو العباس) على قيادة طلعت يعقوب، واحتفظ كلا القائدين باسم الجبهة نفسه دون تغيير، غير أن قائد الجناح الأول اتخذ من سوريا مقراً له فيما اتخذ (أبو العباس) من تونس مقراً له وعين عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال دورة المجلس الوطني الفلسطيني السابعة عشرة التي انعقدت في العاصمة الأردنية - عمان سنة 1984.

ثالثا: منظمات يسارية أخرى- جبهة النضال الشعبي الفلسطيني

تأسست الجبهة في 15 تموز/ يوليو سنة 1967، وهو التاريخ الذي وزع به أول منشور لها في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 وتدعو فيه الجماهير إلى رفض الاحتلال ومقاومته. ولأنها ذات طابع سري فقد اكتفت، في البداية، بالتحريض على النضال السلبي عبر الإضرابات والتظاهر ومقاطعة العدو. إلا أنها نشأت على خلفية الإيمان بجدوى الكفاح المسلح كضرورة لا بد منها لتدمير قوة الخصم وباعتماد حرب الشعب طويلة الأمد. وبعد فترة وجيزة نجحت في تنفيذ أولى عملياتها العسكرية في 24/12/1967 إثر اتصالات سرية ذات طابع تنظيمي وشملت عدداً من مدن الضفة الغربية ونتج عنها تشكيل خلايا مسلحة، ولم تلبث أن وسعت من حضورها التنظيمي والعسكري باتجاه فلسطين المحتلة سنة 1948 ونحو الأردن بداية من سنة 1968. وتعيد المصادر الموسوعية بداية تشكيلها إلى ائتلاف بين عناصر، عرفت النضال سابقاً ضد إسرائيل تعود أصولها الاجتماعية إلى مدن الضفة الغربية لاسيما مدينة القدس. ومن بين هؤلاء المؤسسين يذكر كل من صبحي سعد الدين غوشة وفايز محمود حمدان (الرائد خالد) وخليل سفيان (أبو الحكم) ، وظلت بأمانة الدكتور سمير غوشة حتى وفاته.

ولمعرفة هوية المؤسسين أكثر يمكن العودة إلى أصولهم الأيديولوجية. فهؤلاء كانوا قد ائتلفوا في حركة القوميين العرب لما أعلن عن تشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في11/12/1967، وكان من بين المنظمات المؤتلفة مجموعة « الضباط الوحدويون الناصريون». ويبدو أن هذه المجموعة انشقت بعد أيام من ائتلافها لتعلن عن نفسها باسمها الجبهوي الجديد. ولأنها مجموعة « ناصرية» أصلاً؛ أي ذات أيديولوجية اشتراكية، فقد دعت حال تأسيسها إلى « إقامة النظام الاشتراكي العربي الموحد». و « منذ وقت مبكر من نشأتها آمنت بفكر الطبقة العاملة وأحزابها ومنظماتها واندرجت في مواقع ومبادئ الأممية البروليتارية من أجل إقامة نظام اشتراكي عالمي ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان» . وبسبب انضمامها إلى جبهة القوى الرافضة للتسويات السياسية انقطعت عن العمل، ثم عادت سنة 1979. وفي « المنطلقات النظرية والسياسية والتنظيمية» المنبثقة عن مؤتمر الجبهة السادس الذي انعقد في الفترة ما بين17-23 حزيران/ يونيو سنة 1979حددت هويتها كمنظمة جبهوية « تسترشد .. بالفكر الاشتراكي العلمي- فكر الطبقة العاملة "الماركسية- اللينينية "كمنهج ودليل عمل لنشاطها المسلح ونضالها السياسي التحرري ضد أعدائها القوميين والطبقيين» . وترفض الجبهة التحريفات الداعية إلى « عزل الصراع الطبقي عن النضال الوطني» وتؤكد « أن الثورات المعاصرة التي استلهمت الماركسية - اللينينية كمرشد ومنهج ودليل، لهي من أنجح الثورات ... كالثورة الروسية والصينية والفياتنامية» .

رابعا: المنظمات الفلسطينية البعثية

 موقف حزب البعث من القضية الفلسطينية

إن اثنتين من المنظمات الفلسطينية الفدائية يعود تكونهما التاريخي إلى مبادرة أطلقها حزب البعث. وفي حينه استمدت المبادرة شرعيتها من المبادئ الإستراتيجية العامة التي قام عليها الحزب واعتنق بموجبها مبدأ « وحدة، حرية، اشتراكية» في ظل الشعار « أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». وفي ظل استراتيجيته هذه طور الحزب مواقفه إزاء القضية الفلسطينية لتمر بمرحلتين الأولى: تربط تحرير فلسطين بالثورة الاجتماعية والثورة التحريرية (1948-1958)، إذ « .. أن مأساة فلسطين على هولها وخطورتها ليست إلا إحدى النتائج الطبيعية لوضع المجتمع العربي القائم على الظلم والجهل والاستعمار والاستعباد، وأن الحل الوحيد لمشاكل العرب .. هو في انطلاق الحركة الشعبية في طريق ثوري تقدمي منظم، يجرف الظلم الداخلي والخارجي في آن واحد.. » . والثانية: تربط تحرير فلسطين برفع الوصاية العربية عن الشعب الفلسطيني(1959-1965) ذلك « إن السبيل السليم لإقامة كيان نضالي لشعب فلسطين هو في إطلاق الحرية لأبناء فلسطين من أجل إقامة جبهة شعبية لتحرير فلسطين.. يسمح لأبناء فلسطين في مختلف الأقطار العربية بتأليفها بحرية. وهذه الجبهة.. وحدها يمكن أن تحقق، بنضالها المستقل، تنظيم كفاح أبناء فلسطين في سبيل العودة.. » . وكان من الطبيعي أن البيانات التي كانت تصدرها « القيادة القومية» للحزب سنوياً، وفي المناسبات الوطنية الفلسطينية ألا تتعارض قط مع رؤية الحزب لحل المشكلة الفلسطينية ابتداءً من المرحلة الثانية. وعلى العكس من ذلك فقد مضى الحزب قدماً في تطوير مفهومه لـ « الكيان الفلسطيني» الذي كان يجري التحضير، عربياً، لانبعاثه. ولعله الحزب الوحيد الذي تقدم بمشروع سياسي محكم يتعلق بماهية « الكيان الفلسطيني» وأهدافه وسبل تشكيله واستمراره عشية انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الأول في القدس. وفي مطلع الوثيقة التي أصدرتها « القيادة القومية» لخص الحزب محتويات مشروعه حول « الكيان الفلسطيني الحقيقي» ، كما لو أن حركة « فتح» هي التي وضعته، على النحو التالي:

• « يجب أن تتوفر في الكيان الفلسطيني المقومات الأساسية لكل كيان وهي الأرض والشعب والسلطة.
• الكيان ليس غاية بذاته وإنما هو وسيلة تقتضيها معركة تحرير الوطن السليب.
• جيش فلسطيني مستقل يرتبط بالسلطة العليا للكيان ويخضع لها وله ممثلون في القيادة العربية الموحدة.
• هيئات الكيان: مجلس وطني منتخب ولجنة تنفيذية عليا.
ومن التزامات الدول العربية، ورد ما يلي:
• تلتزم الدول العربية برفع القيود المفروضة على تنقلات الفلسطينيين وتوفر لهم الحرية اللازمة.
• كل اعتداء على الكيان الفلسطيني يعتبر اعتداء على الدول العربية مجتمعة ومنفردة.
• تلتزم الدول العربية وتتعهد بتجنيب الكيان الفلسطيني أي خلاف قد ينشأ بينها» .

وقبل صدور الوثيقة كان البعثيون يفكرون بإنشاء منظمة فدائية يقودها البعثيون منذ المؤتمر الخامس للحزب (1962). وتأسست طلائعها الأولى بقيادة خالد اليشرطي عضو القيادة القومية، وفشلت المحاولة إثر انقلابين عسكريين، وقعا في الثلث الأول من عام 1963 في كل من سوريا والعراق، قادهما حزب البعث. وبعد ظهور حركة « فتح» سنة 1965 عمم الحزب على أفراده الالتحاق بالحركة. وكان أبرزهم جلال كعوش الذي قتل سنة 1966 تحت التعذيب في السجون اللبنانية. وكان موقف « البعث » من انطلاق العمل الفدائي (1965) الأشد حماسة من بين مواقف القوى السياسية قاطبة، وقد هاجم « البعثيون» حملات الاتهام والتشكيك التي أثيرت حول العمليات الحربية التي نفذتها « قوات العاصفة» الجناح العسكري في حركة « فتح». وكانت الإذاعة السورية تنشر بلاغات العمليات في ظل تعتيم إعلامي مطبق. وفي حزيران/ يونيو 1965 كتب عبد الوهاب الكيالي مدافعا عن الفدائيين الفلسطينيين، يقول: « إن طبيعة العمل الذي يقوم به الفدائيون في الأرض المحتلة يجعلهم أصحاب مقدرة خارقة على تحمل جميع ألوان الأذى والتنكيل.. وهم الذين نذروا حياتهم من أجل فلسطين وارتضوا الموت في سبيلها» على الرغم من أنه: « لا العاصفة ولا أي مخلص في العرب يدّعي أن العمل الفدائي في نطاقه المحدود يمكن أن يستعيد فلسطين ويعيدها، ولكن حروب التحرير الكبرى في التاريخ لابد لها من بداية وأعمال العاصفة هي البداية الطبيعية والمنطقية لتحرير فلسطين». وفي تقرير لحزب البعث بعد بضعة شهور على الانطلاقة تبنى الحزب المطالبة بدعم كل عمل كفاحي مسلح تقوم به فئات فلسطينية لا تقوم حولها الشبهات. وفي هذا السياق طالب « بتشكيل لجنة سرية تبحث حركة تحرير فلسطين « فتح» وموقف الحزب منها»، وفي نفس الوقت أكد على: « أن العمل الفدائي الذي أقدمت عليه « العاصفة » عمل جبار كسر الجدار المعنوي الذي كان يحيط بالعمل التحرري داخل الأرض المحتلة رغم ضآلة ما فعلته العاصفة، ورغم ضعف الإمكانيات البشرية والحربية والمادية» .

ولا ريب أن تبني الحزب للعمل الفدائي آنذاك يتصل اتصالاً وثيقاً بسياسة « البعث » في سوريا التي كانت تدفع باتجاه توتير الأوضاع مع إسرائيل. وتنادي بمباشرة الصدام معها خلافاً لما يراه عبد الناصر ويحذر منه. أي عدم التوريط. تلك السياسة الشائعة قبل الحرب (1967). أما في العراق حيث نظام الحكم الذي يقوده الرئيس عبد السلام عارف لم يكن مواكبا لانطلاقة العمل الفدائي، وربما بسبب سرية حركة « فتح» ، فقد عجز عن تبين هوية العمل الفدائي. إذ يروي خالد الحسن عضو اللجنة المركزية للحركة أن وفدا فلسطينياً زار بغداد واجتمع مع الرئيس العراقي لاطلاعه والقيادة العراقية على مبادئ وأهداف الحركة فعلق الرئيس بتساؤل: « لماذا لا تتحد فتح مع قوات العاصفة» ؟

على كل حال فإن تبني حزب البعث لاستراتيجية الكفاح المسلح لم يكن ناجماً عن توافق أيديولوجي مع فكر المقاومة الفلسطينية، وفيما بدا طرحاً قطرياً فلسطينياً وما قد يتمخض عنه من إساءة للفهم ربما يؤدي إلى تحول القضية الفلسطينية عن مسارها القومي رأى حزب البعث أنه: « لابد من وجود تنظيم فدائي على الساحة الفلسطينية يترجم المواقف المبدئية للحزب واستراتيجيته تجاه القضية الفلسطينية» ، غير أن وجود منظمتين فدائيتين بعثيتين عكستا الانقسامات المسبقة في حزب البعث. وبالذات بين فرعي الحزب في العراق وسوريا. والمهم في الأمر أن رؤية حزب البعث للمنظمة الفدائية العتيدة قد تجلت في « نقطة البداية» بينما كان « عفلق » في عزلة اختيارية ويحتفظ بمنصبه بوصفه أميناً عاماً للحزب، وليس مؤيداً لفرع (العراق) ومعارضاً لآخر (سوريا). ويبدو أن: « عفلق » لم يكن يرى في منظمة الصاعقة ذات المنشأ البعثي السوري ضالة الحزب المنشودة.

 المنظمات البعثية الفدائية

1. جبهة التحرير العربية

أوصى المؤتمر التاسع لحزب البعث الذي انعقد في 9 شباط/ فبراير سنة 1968 بضرورة إنشاء منظمة فدائية باسم « جبهة التحرير العربية » . وبعد شهرين (في ليلة 7 نيسان/ أفريل) باشرت الجبهة أولى عملياتها العسكرية وجاء الإعلان التأسيسي في 20 كانون أول/ ديسمبر سنة 1968 ثم البيان السياسي الأول في 31 آب/ أغسطس سنة 1969 . وتولى الدكتور زيد حيدر أمانتها العامة منذ الإعلان عنها. ولا شك أن مبررات النشأة لا تخرج عن إفرازات الهزيمة من جهة وترهل حزب البعث من جهة أخرى، وبالتالي بدت نشأتها غاية حزبية بالدرجة الأولى. وفي هذا السياق تساءل ميشيل عفلق عن غاية الحزب من الكفاح الشعبي المسلح وما إذا كان نقصاً يراد سده أو أنه مجاراة لحركات ومنظمات أخرى؟ ويخلص إلى القول أن: « الاستنتاج المنطقي هو أن الحزب.. ليس فيه نقص من ناحية معينة هي ناحية الكفاح المسلح، وإنما.. مقصر منذ زمن في كل نواحيه، وهذا ما حجب عنه رؤية الحاجة الأساسية إلى الكفاح المسلح وأهمية معركة فلسطين في الثورة العربية، وانشغل بأمور ثانوية بالنسبة إلى المعركة»، ويذهب « عفلق » إلى أبعد من ذلك في الغاية من تشكيل الجبهة حين يقول: « فالحزب عندما يبادر إلى تشكيل الجبهة إنما يريد لا سد نقص معين فيه وإنما الشفاء من أمراضه كلها.. يريد أن يولد ولادة جديدة سلمية.. لأن الجبهة ليست جزءً من عمله، ليست الجزء العسكري، ولا .. القتالي، ولا .. الفلسطيني، وإنما هي الحزب بإرادته في الانبعاث .. إرادة التصحيح الشامل والعميق في أوضاعه» .

من الواضح أن رؤية « عفلق » تعني شيء واحداً هو نقض تام لوسائل الكفاح غير المسلح الذي عمل به الحزب كغيره من الحركات القومية العربية لأكثر من ربع قرن فـ « الصيغة التي كان يعمل فيها الحزب في جميع منظماته وفي جميع أقطاره .. فقدت الحياة ولم تعد ناجعة ولا ناجحة » أما الجبهة « فهي الحزب حتى يتجدد وإذا تجدد الحزب تجددت الثورة العربية» . ولكن هذا لا يعني أن تكون أيديولوجيا الجبهة غير أيديولوجيا الحزب حتى لو كانت منظمة فدائية. أي تعتنق الكفاح المسلح كعقيدة عمل، وعلى العكس من ذلك فعلى الصعيد النظري، وليس العملي، « ليس للجبهة أية أيديولوجيا منفصلة عن أيديولوجيا الحزب، إذ أن فكرها نابع من العقيدة العربية الثورية التي رفع رايتها حزبنا وناضل من أجلها منذ أكثر من ربع قرن. والتراث الفكري الذي تنتجه الجبهة ما هو إلا تفصيل لفكر الحزب بقضية فلسطين» . إذن، كيف تفاعلت الجبهة مع شعار الحزب « وحدة، حرية، اشتراكية»؟

تُعَرّف الجبهة على أنها منظمة فدائية ذات طابع جبهوي وتركيب قومي وفكر ثوري. ولتحديد هويتها الأيديولوجية نكتفي بالانطلاق من العبارة الأخيرة. فماذا يعني أن الجبهة ذات فكر ثوري؟ إذا كانت الجبهة بعثية المنشأ فهي بلا شك ستربط بين شكلين من النضال. الشكل التقليدي الذي يربط بين النضال السياسي والاجتماعي الذي قام عليه الحزب تاريخياً وبين النضال المسلح الذي تبناه بعد الهزيمة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن « الكفاح المسلح » بات الميكانيزم الذي يتحرك بتأثيره شعار الحزب « وحدة، حرية، اشتراكية». فأي معنى اكتسبته المفاهيم الثلاثة؟

أ‌. قومية الكفاح المسلح

إن صيغة « جبهة» في عصر الكفاح المسلح لازمة لأن الأمة في حاجة « إلى تكتيل صفوفها وتجميع قواها وتحريك طاقاتها» بعد أن أثبتت الهزيمة أن كل فئة عاجزة « بمفردها عن القيام بمتطلبات المواجهة الجدية مع العدو» . لذا فهي جبهة « عربية» ليس لأن الفلسطينيين عربا، بل لأن « تركيباً عربياً قومياً يضمن اشتراك الجماهير العربية في المعركة ويؤكد وحدة النضال العربي على أرض فلسطين، فالمعركة هي معركة قومية ويجب أن تكون أداتها عربية... وتحرير فلسطين يرتبط ارتباطاً دقيقاً بالوحدة العربية» . وعلى هذا الأساس فإن الكفاح الشعبي المسلح هو أداة قومية من شأنها أن « تؤمن امتداد الوعي بالخطر الصهيوني والاستعماري... إلى جميع أجزاء هذه الأمة» . وهذا الوعي القومي يجد أصفى تعبيراته في العلاقة الجدلية ما بين الوحدة والتحرير. وفي هذا الصدد يقرر البيان السياسي للجبهة أن « توجه العرب نحو فلسطين يصنع الوحدة ويحرر فلسطين، وبقدر ما تعيد الوحدة لفلسطين حريتها، فإن فلسطين تعيد للعرب وحدتهم. إن فلسطين هي طريق الوحدة والوحدة هي طريق فلسطين وكل محاولة للفصل بين الشعارين ووضع الواحد في وجه الآخر هي إضعاف لمعركة التحرير وإساءة إليها مثلما هي إضعاف للوحدة وإساءة إليها» .

ب‌. حرية الكفاح المسلح

تعتبر جبهة التحرير العربية أن معظم الأشكال التنظيمية لفصائل الثورة الفلسطينية ذات منحى قطري، وأن مهمتها تتمثل في سدّ « النقص القومي» في العمل الفدائي الذي كانت تشكو منه جميع فصائل الثورة الفلسطينية سواء كانت يمينية أم يسارية، فلسطينية المنشأ أم قومية. أما التأكيد على الهوية الفلسطينية عند الجبهة فهو موجه بالأساس إلى محاولات إلغاء الوجود القومي للشعب الفلسطيني وليس للنأي بالقضية إلى هوة القطرية. وتعتقد الجبهة أن هذا النقص شكل مدخلاً للقوى المعادية للثورة تسبب بإثارة النعرات القطرية والإقليمية الأمر الذي سعت الجبهة لسده حتى تكون جسراً يربط بين النضال العربي والنضال الفلسطيني ويزيد من تلاحم الثورتين العربية والفلسطينية، ولأن فلسطين ليست مجرد قضية قطر عربي بل هي في طبيعتها وتفاعلاتها قلب القضية العربية. وبكلمات ميشيل عفلق « قضية فلسطين ليس لها حل خاص، إنها خلاصة القضية العربية في محنته الحاضرة مع الاستعمار والصهيونية والرجعية.. » . لذلك ترفض الجبهة أي فصل بين القضيتين العربية والفلسطينية كما ترفض كل مشاريع التسوية التي تؤدي إلى تثبيت وجود الكيان الصهيوني.

ج. اشتراكية الكفاح المسلح

يتلازم طرح « الاشتراكية» مع « الديمقراطية » في فكر الجبهة. فبالنسبة للاشتراكية فإنها تطرح في سبيل التعبئة العامة التي توظف « للاستفادة من جميع طاقات الأمة بإفساح المجال أمام كل مواطن للمشاركة الجدية في الكفاح». غير أنها ليست معيارية في ظل الكفاح المسلح إذ لا تقوم، كما كانت في الماضي، على مبدأ تكافؤ الفرص. بمعنى أن الخطاب لم يعد موجهاً إلى كل المواطنين بل إلى: « جماهير الشعب العربي الكادحة لرفع مستوى وعيها وتنظيمها وكفاءاتها.. وعزل جميع الطبقات والمؤسسات والأنظمة المرتبطة تاريخياً بمصالح الاستعمار ووجوده السياسي والاقتصادي والمتضررة من الجو الثوري الذي يولده الكفاح المسلح في فلسطين... فالاشتراكية هي ضمان بقاء القيادة في يد الجماهير صاحبة النفس الأطول والمصلحة الأبقى في إيصال الكفاح إلى مستوى الحرب الشعبية» . أما ديمقراطية الكفاح المسلح فهي التي ستؤمن تكافؤ الفرص لقوى الثورة وتحكم العلاقة بين القيادة والقاعدة بحيث: « تخلق لكل فرد مكاناً في المعركة. وتجعل من الكفاح المسلح وثيق الصلة بعقل الشعب وبروحه وتحميه من أمراض الوصاية والتحلل من المبادئ والقيم الثورية وتمده بروح السلامة والصراحة» .

2. طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)

بدئ بتأسيس « الطلائع» في النصف الأول من سنة 1967، أي قبل الحرب وليس بعدها، لما كلفت القيادة القومية شعبة فلسطين للحزب في دمشق باختيار عدد من الرفاق الحزبيين والمواطنين الفلسطينيين والعرب لتدريبهم عسكرياً. وكانت الخطوات الأولى في شهر نيسان / أفريل. وفي ليلة الثامن منه نفذت أولى عملياتها في الأرض المحتلة باسم « طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة) ». وبناءً على مقررات المؤتمر القومي التاسع الاستثنائي للحزب الذي انعقد في دمشق في شهر أيلول/ سبتمبر سنة 1967 أجرت القيادة القومية للحزب اتصالات مع فروع الحزب في الأردن والضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحتل وشعبة فلسطين في دمشق بهدف تشكيل قيادة فلسطينية لتتولى قيادة العمل السياسي والكفاحي والتنظيمي وتطبق استراتيجية الحزب في المرحلة التي أعقبت الهزيمة. وقد أثمرت الاتصالات عن عقد مؤتمر تحضيري في شهر شباط/ فبراير سنة 1968 أصبح إثره التنظيم الفلسطيني للحزب هو العمود الفقري لمنظمة « الطلائع»، وغدا الأمين القطري الفلسطيني هو القائد السياسي والعسكري العام للمنظمة داخل الأرض المحتلة وخارجها. وبعد انعقاد مؤتمر المنظمات الفدائية في القاهرة (9/8/1968) اندمجت في « الطلائع» منظمتين فدائيتين في 27/12/1968، وهما: جبهة التحرير الشعبية وقوات الجليل الشعبية. والآن ما هي مبررات النشأة ؟

من المؤكد أنه لا توجد اختلافات جوهرية بين « جبهة التحرير» و « الطلائع» بما أن كليهما أعلن التزامه بأيديولوجية حزب البعث ومبادئه واستراتيجياته إزاء القضية الفلسطينية. وحين تشكيل الجبهة كانت الغاية حزبية كما عبر عنها ميشيل عفلق، وبررت الجبهة نشأتها بـ « قومية المعركة» وسد النقص الأيديولوجي القومي في حركة الثورة الفلسطينية. أما بالنسبة لـ « الطلائع» فلا نقع على أي مبرر للنشأة سوى أنها امتداد تام لحزب البعث في سوريا. وفي هذا السياق تعبر «الجبهة» و « الطلائع» عن موقف « البعث » من قضية القطرية: « فالمطالبة باستقلالية الثورة الفلسطينية، بحجة التمييز بين قضايا التحرر الوطني وقضايا التحرر الاجتماعي والاقتصادي.. إن هذه المطالبة عدا عن كونها عملية فصل تعسفية بين العدو الوطني والعدو الطبقي، فهي فلسفة برجوازية يمينية» .

لذا حاولت « الطلائع» أن تعطي لنفسها صفة التنظيم البروليتاري الجماهيري الذي يربط ما بين الثورة الاجتماعية والثورة التحررية، وطالبت بأن تلتزم الثورة الفلسطينية بمصالح الجماهير الكادحة وأهدافها الطبقية انطلاقاً من رؤية شمولية تقرن تحرير الأرض بتحرير الإنسان . وترى « الطلائع» أن دور العمل الفدائي: « في كل الظروف والأحوال يجب أن يكون ملتحماً بالعمليات النظامية للجيوش العربية لبلدان المواجهة لمساندة القوات العربية». ويرى بلال الحسن أن هذا الموقف من شأنه أن: « يلغي مفهوم حرب التحرير الشعبية ويحول العمل الفدائي إلى فرق كوماندوز ملحقة بالجيوش العربية من المؤكد أن الفرق المماثلة التي تنشئها الجيوش نفسها أكثر قدرة وخبرة فنية منها » .

وعن التركيب الاجتماعي لـ « الطلائع» لا يرد شيء يذكر مثلما هو الحال عند جبهة التحرير، بيد أن الحضور الاجتماعي العربي في المنظمتين ظاهرة ملموسة. ففي جبهة التحرير العربية يطغى العنصر العراقي والفلسطيني العراقي مثلما يطغى الحضور السوري والفلسطيني السوري في « الطلائع». أما العلاقات بين المنظمتين وتجاه المنظمات والأحزاب الأخرى فقد ظلت على الدوام ظلاً للعلاقة السائدة بين جناحي الحزب في سوريا والعراق وعلاقات الحزبين تجاه القوى الأخرى.

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

4 من الزوار الآن

879946 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق