الصفحة الأساسية > 9.0 الإعلام المركزي > المسلكية الثورية > صياغة الذات على طريق المسلكية الثورية
كثيراً ما توجد لدينا - وكذلك بالنسبة للفرد الواحد - عقليتان أو نوعان من الأفكار؛ العقلية والأفكار التي نترجمها عبر لساننا وفي أحاديثنا، والعقلية والأفكار التي نترجمها عبر ممارساتنا وسلوكنا. وإذا سألنا ما هي أفكارنا الحقيقية؟
الجواب: إنها ما نترجمها عبر ممارساتنا وسلوكنا؛ فالأفكار التي تتشكل منها عاداتنا وأمزجتنا ومختلف ممارساتنا ومسالكنا هي الأفكار التي يجب أن نقرّ بأنها تشكل التركيبة التي تتكون منها عقليتنا. وإذا كانت الأفكار هي نتاج طبقي وتاريخي تكونت عبر الممارسة العملية في الصراع ضدّ الطبيعة، وفي الصراع من أجل الإنتاج، وفي الصراع الطبقي والقومي، وفي الصراع عبر التجربة العلمية، فإنها بدورها تعود فتقرر كيف نمارس وكيف نسلك وكيف نحدد مواقفنا الحقيقية. ولهذا فإن تغير الأفكار التي نحمل، ومن ثم تغير التركيبة كلها التي تتكون منها عقليتنا يؤديان إلى أن تتغير ممارساتنا وسلوكنا وأمزجتنا، لأننا لا نستطيع أن نمارس ونسلك ونتصرف ونحدد مواقفنا الحقيقية إلا كما نفكر. وإذا كان هذا التغيير لا يتمّ إلا عبر الممارسة ومن خلالها وفي أثنائها، إلا أنه لا يتمّ تلقائياً خارجاً عن عملية الصراع في ميدان الأفكار، ولا يتمّ خارجاً عن عملية الصراع الداخلي لدى المناضل نفسه من أجل تحطيم الأفكار القديمة التي يحملها، وإعادة صياغة عقليته بالأفكار الجديدة الثورية. وهذا يتضمن تغيير الأمزجة والأذواق أيضاً.
إن تبني الأفكار الثورية تمرّ عبر مرحلتين اثنتين؛ المرحلة الأولى هي تكوّن قناعات أولية بتلك الأفكار تترجم عبر اللسان والأحاديث، ولكنها لا تترجم عبر الممارسة والسلوك والمزاج والمواقف الحقيقية، أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي تنتقل فيها تلك القناعات الأولية إلى ترجمة فعلية عبر الممارسة والسلوك والمزاج، والمواقف الحقيقية. أي تصبح هي الأفكار السائدة فعلاً. غير أن الانتقال إلى هذه المرحلة يحتاج إلى صراع شاقّ وطويل ومستمر، إنه صراع شاقّ وطويل ليس في عملية حسم الانتصار لمصلحة الأفكار الثورية. وإنما هو شاقّ وطويل بعد تحقيق الانتصار أيضاً. وذلك للمحافظة عليها من عوامل الخراب والفساد وعودة انتصار نقيضها الذي يكون قد هزم، ولكنه لم ينته مطلقاً. وذلك لأن له في المجتمع وفي الظروف المحيطة في الثورة عوامل مادية وذاتية تمدّه بأسباب العودة إلى السيادة من جديد. ولهذا إنه صراع شاقّ وطويل ومستمر، وإذا لم نتنبه لهذه المسألة ونعالجها بأعلى درجات اليقظة وبذل الجهد، فإن الخطر يظل خطراً محدقاً ولا شكّ.
لو ضربنا مثلاً عملية إبدال الغرور بالتواضع بالنسبة للعلاقة بالشعب والأخوة المناضلين والثورة، فسنجد أن العملية في مرحلتها الأولى سوف تتسم بإعلان رفض الغرور ونقده والتأكيد على التواضع وضرورة تكريسه في العلاقة بالشعب والأخوة المناضلين والثورة. ولكن دون أن يترجم ذلك إلى الممارسة والسلوك والمزاج. حيث يبقى الغرور سائداً فعلياً وهو الذي يترجم نفسه في طريقه النظر إلى الشعب والأخوة المناضلين والثورة ومعاملتهم. ثم تأتي المرحلة الثانية وهي دخول الصراع الأشدّ أي انتصار التواضع فعلياً وانزال الهزيمة بالغرور. ولكن ذلك يحتاج إلى الاستمرار ومواصلة النضال للمحافظة على التواضع وتعميقه وتكريسه، وخوض الصراع المستمر ضدّ مجموعة العوامل المادية والذاتية التي تسعى لإفساده وإعادة الغلبة للغرور. إن هذا ينطبق على سائر الأفكار الأخرى مثل: هل نكون شجعاناً أم نكون جبناء؟ هل نكون على استعداد للتضحية ونقوم بالتضحية فعلاً، أم نحن على غير استعداد للتضحية، بل ونخشى التضحية؟ هل نكون مع التنظيم أم ضدّ التنظيم، مع العمل الجماعي أم مع العمل الفردي؟ هل نفكر بأنفسنا قبل الآخرين أم نفكر بالآخرين قبل أن نفكر بأنفسنا؟ طبعاً إن هذه المقولات وأمثالها التي اصطلح على تسميتها قيماً أو صفات تحددها الأفكار التي نحملها حول هذه القيم، وحول مسألة النضال من أجل الشعب، وحول الموقف من مسألة القيام بالثورة.
ولهذا فإن الصراع بين الخطّين يعبر المراحل الثلاث: المرحلة الأولية، ثم مرحلة انتصار الأفكار الثورية، ثم مرحلة المحافظة على هذا الانتصار وتعميقه وتكريسه.
لقد علمتنا التجربة أن الصراع بين الخطّين في المرحلتين الثانية والثالثة هو الصراع الحاسم والذي يجب أن نشدد عليه. لأن هنالك اتجاهاً لدى كثيرين يجنح إلى التشبث في المرحلة الأولى أي إبقاء الثورية على اللسان وفي الأحاديث، مع المحافظة على الأفكار التي يحملونها حقيقة، والتي توجه ممارستهم وأمزجته وسلوكهم، والتي هي غير تلك الأفكار الثورية التي تدور على لسانهم وفي أحاديثهم. وهم لهذا يقاومون بضراوة خوض الصراع للانتقال إلى المرحلة الثانية ومن ثم إلى الثالثة. ولكن دون خوض الصراع للانتقال إلى المرحلة الثانية والثالثة لا يمكن أن يعيد المناضلون صياغة أنفسهم وأفكارهم، ومن ثم يستحيل السير بالثورة حتى النصر.
من هنا علينا أن نقدم دون ما خوف على خوض النضال والصراع بين الخطّين في هذه المستويات الثلاثة، وخاصة في المرحلتين الثانية والثالثة. هذا ولنتعلم من تجربة حركتنا فتح، حين خاضت الصراع لترجمة الكفاح المسلح إلى ممارسة فعلية، وعدم إبقائه مجرد شعار يدور على اللسان وفي الأحاديث.
عندما يحقق كل مناضل منا مع نفسه، سيجد أنه جاء إلى الثورة وهو يحمل عدداً كبيراً من الأفكار والعادات والأمزجة التي تلقن بعضها من المدرسة والأفكار السائدة في المجتمع، والتي تكوّن بعضها عبر الصداقات والتجارب التي مرّ بها والتي حمل بعضها من قبل من تأثر بهم. ولهذا عندما يلتزم بالعمل في الثورة يدخل في علاقات جديدة، ويقوم بممارسات جديدة، ويجد أن مسألة القيام بعمل الثورة وخدمة الشعب كثيراً ما تصطدم مع تلك الأفكار والعادات والأمزجة التي يحملها، والتي تطبع ممارساته وتصرفاته ومسالكه وآراءه. هذا ويمكننا أن نعدد هنا عدداً من الأمثلة على هذه الموضوعة. فهنالك الأنانية والفردية والغرور والبحث عن المصلحة الخاصة، وهنالك المزاج مثل العصبية والنرفزة واللامبالاة وضيق النفس وعدم الرغبة في خدمة الشعب، أو الميل للسيطرة على الآخرين وقمعهم واستغلالهم. وهنالك أفكار مثل عدم الميل للدراسة الثورية والمثابرة على العمل، أو العناد في الدفاع عن الأخطاء. وهنالك النظرة إلى العالم وما هو الشيء الذي يجب أن نكرس حياتنا له. هل نعيش لكي نجمع الثروة؟ هل نهتمّ باقتناء الأشياء؟ هل نهتمّ بالمظاهر والقشور؟ أم نعيش من أجل الشعب والثورة، ونتخلى عن الاهتمام بذواتنا فنفكر في صهر أنفسنا في النضال من أجل الثورة ومن أجل خدمة الشعب.
كل هذه الأمور لا بدّ من أن نصطدم بها، وعلينا أن ندخل الصراع الحازم للتخلص من الأفكار والعادات والأمزجة والممارسات التي تبعدنا عن الثورة والشعب وتعرقل نضالنا، وعلينا أن ندخل الصراع الحازم لإعادة صياغة أنفسنا من أجل التمسك بالأفكار والعادات والممارسات وبالنفسية التي تدمجنا بالثورة، وتزيد من التحامنا بالشعب وتبني خطّ الجماهير. وإذا لم نفعل ذلك، وباستمرار، فإننا لن نقدر على القيام بالثورة والتسلح بأعلى درجات الجرأة على خوض النضال، وأن نربي في أنفسنا روح الصمود وعدم الخوف من أية تضحية حتى نحقق النصر النهائي.
إن مسألة الموقف من هذه القضية وممارستها أو عدم ممارستها فعلاً، هي مسألة خطّ سياسي وخطّ فكري، إنها موقف طبقي؛ فالخطّ السياسي الصحيح والخطّ الفكري الصحيح يضعان مسألة تغيير أنفسنا وإعادة صياغتها باتجاه الثورة في مقدمة الأمور والمهمات التي توضع على عاتق المناضلين. إن تبني هذا الخطّ هو الذي يثبت قدرة الطليعة على أن تكون حقيقة طليعة الجماهير، وتقود الثورة بنجاح. وإذا لم نتشرب بهذه الموضوعة حتى العظم، وإذا لم نطبقها بحزم فسنكون عرضة للفساد والخراب، ومن ثم إفساد كل ما بين أيدينا، وفي المقدمة إفساد الثورة نفسها. ليس هذا وحسب بل سننقلب إلى أعداء للشعب في المدى البعيد. أي سنسلك طريق عتاة النفعيين والطغاة وسائر الفاسدين المفسدين المتسلطين على الشعب. إذن فلنخض هذا الصراع ضدّ أنفسنا. إنه الجهاد الأكبر بالنسبة للطليعة المناضلة.
ثمة خطان ينبعان من منطلقين فكريين متناقضين تماماً؛ إنهما يشكلان جزئين متعارضين من نظريتين متعارضتين. وذلك في مواجهة مختلف المسائل التي تواجه الثورة والثوار، وكذلك في تحديد موقفنا من مختلف نواحي الحياة ورؤيتنا لها.
ولقد علمتنا تجربتنا الملموسة في الحرب التي خاضتها الجماهير الفلسطينية واللبنانية، أن ثمة خطّين أساسيين دائماً في مواجهة مختلف المسائل التي تواجه الثورة الثوار. وكذلك في تحديد موقفنا من مختلف نواحي الحياة ورؤيتنا لها.
إن هذين الخطّين يحملان طبيعة فكرية؛ فهما يتعلقان بالمفاهيم التي يحملها المرء عن الحياة والعالم، أو بعبارة أخرى يتعلقان بالأفكار التي يحملها عن مختلف الأشياء ككل وكأجزاء. وقد أثبتت تجربتنا بأننا كما نفكر حقيقة نحن نتصرف. وليس كما نقول أو نعلن. إلا إذا كان هنالك تطابق بين ما نقول ونعلن وبين ما نفكر فيه حقيقة وفعلاً. لهذا فإن المحكّ الحاسم لما نحمل من أفكار هو ما نمارس فعلاً وكيف نمارسه؛ فأفكارنا الحقيقية نعرفها في ممارساتنا العملية. ومن هنا فإن الطريق إلى الممارسة الثورية الصحيحة هو أن نحمل حقيقة الأفكار الثورية الصحيحة. هذا ولا يمكن أن نطوّر ممارساتنا إذا لم نطوّر أفكارنا. فمسألة إعادة صياغة أنفسنا تشكل شرطاً ضرورياً لكي نستطيع الإسهام مع الجماهير، ونمارس دوراً قيادياً في تغيير العالم. ولا تقتصر إعادة صياغة النفس على تبني خطّ سياسي صحيح، وإنما تتطلب أيضاً، وبأهمية كبرى، إعادة صياغة ما نحمل من أفكار ومفاهيم. لأن ذلك سيقرر سلوكنا وأخلاقنا ومختلف نواحي ممارساتنا. إنه سيقرر على سبيل المثال مسألة تجرؤنا على النضال أو عدم تجرؤنا على النضال، مسألة خشيتنا أو عدم خشيتنا من الإقدام على أية تضحية. إنه سيقرر مسألة استعدادنا أو عدم استعدادنا للتخلص من أخطائنا ونواقصنا. وهكذا بالنسبة إلى مختلف المسائل والقضايا.
عندما ارتفع الموج الثوري في لبنان وانتقل الصراع إلى مستوى المواجهة المسلحة طويلة الأمد، برز خطّان فكريان متعارضان داخل صفوفنا يدوران حول حقيقة نظرتنا إلى الثورة وقضية الشعب. هل نعطي الثورة كل شيء؟ هل نتمسك بقضية الشعب حتى النهاية؟ هل نخدم الشعب بكل تفانٍ ونكران ذات؟ أم نحن مع الثورة وقضية الشعب ضمن مدى محدود لا نتعداه، ولا نسمح لأنفسنا بالتخلي عن مصالحنا الخاصة؟ ونظلّ نتمسك بتأمين مستقبلنا الفردي؟ فإذا كان هنالك من تضحية فليقدم سوانا هذه التضحية، وإذا كان هنالك من صعاب فليتحمل غيرنا هذه الصعاب. فنحن بهذا نفكر دائماً بإنقاذ جلدنا، وبتأمين راحتنا وأمننا، وحين نتعب أو نشقى فلا بدّ أن يكون هذا التعب وهذا الشقاء إلى حدّ محدود. ويجب أن نتغنى فوراً بما قدمنا وبما تحملنا ونبرزه ونتقاضى عليه ثمناً غالياً من الشعب.
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تقود فوراً إلى خطّين فكريين متناقضين. ولا شكّ في أن كلاً من هذين الخطّين ينتمي إلى طبقة من الطبقات، وأن كلاً منهما له مداه الذي يختلف في عن الآخر في النظر إلى الثورة وقضية الشعب. وإلى أي حدّ تستأهل قضية الثورة الفلسطينية والثورة العربية، قضية جماهير الأمة العربية أن نعطي لها.
ومن خلال هذا الصراع بين الخطّين أخذ الخطّ الثوري الصحيح يتحدد، وتبلورت نظرتنا في مواجهة مختلف المسائل والقضايا، وجاءت الحصيلة النهائية تقول بأن ليس لحياتنا الفردية من معنىً وقيمة إلا بالتزامنا الالتزام الصادق وغير المحدود بقضية الثورة والشعب. فكل حياة بالنسبة لنا خارج النضال من أجل الثورة ومن أجل قضية الشعب ومن أجل قضية الوطن العربي هي حياة نرفضها ونراها حياة تافهة ولا قيمة لها أبداً. لذا ينبغي علينا أن نكرس حياتنا ونشاطنا وفكرنا لخدمة قضية الثورة والشعب والوطن. وينبغي علينا أن نضحي، وأن نكون دوماً على استعداد للتضحية، أية تضحية، من أجل هذه القضية. فما من شيء في الحياة أنبل من أن يكون الإنسان مناضلاً في صفوف الجماهير. وما من مظهر أو مكسب أو حياة، وما من مركز أو منصب أو شهرة أو مال يستحق أن يغري المناضل بالبحث عنه والسعي له وترك قضية الثورة والشعب. بل ما من عزيز أم، أب، أخ، أخت، ولد، بنت، زوج، زوجة، حب، عائلة، أو أية قرابة أخرى يمكن أن تعطى أولوية على قضية الثورة والشعب. كذلك من غير الممكن لخطر، لتضحية، لصعوبة، لمشقة، لبؤس، لنكسة، للموت نفسه، أن يثني عزم المناضل عن الاستمرار بالثورة والقيام بخدمة الشعب وتحقيق انتصار قضية الشعب والوطن.
إن التسلح بهذه النظرة إلى الحياة والأشياء وتجذيرها في عقولنا وفي صميم قلوبنا، وجعلها تطرد بعيداً كل الأفكار النقيضة لها، يشكل شرطاً ضرورياً لولادة الطليعة الثورية التي تستطيع أن تحمل بشرف قضية الشعب والثورة والوطن، وتصبح عندئذ جديرة بأن تمحضها جماهير أمتنا العربية الثقة والحب. إنه شرط ضروري من شروط السير بالثورة حتى النصر.
عندما يحتدم الصراع بين الخطّين على المستوى الفكري. وينتقل لمسائل العادات والتقاليد والمسلك، وأساليب معالجة القضايا، يبرز اتجاه يتميز بالاستهتار بالمسائل ذات الطابع الأخلاقي، ويقول إنكم تحوّلون المسألة إلى مسألة أخلاق. وفي نظرهم يتصورون أن ما يستأهل الصراع حوله هو المسائل السياسية فقط. أما الأخلاق فشيء مبتذل ولا يجوز أن تدخل في الموضوع، إن هذا الاتجاه هو وجه آخر للصراع بين الخطّين. فهو يريد أن يتحرر من أي قيد أخلاقي - هذا بحدّ ذاته أخلاق محدودة - والسبب في ذلك هو أن الأخلاق هي استمرار لسياسة محددة، وهي تعبر عن سياسة محددة وعن فكر وعقلية محددين ولا مناص.
عندما نشنّ النضال على المستوى الأخلاقي كجزء من شنّ النضال على المستوى السياسي والفكري. نفعل ذلك لأن الخطّ السياسي الصحيح يحمل أخلاقه، والخطّ الفكري الثوري يحمل أخلاقه. كما أن الخطّ السياسي المنحرف الخاطئ يحمل أخلاقه، وكذلك الخطّ الفكري المنحرف والخاطئ يحمل أخلاقه أيضاً. ولهذا لا بدّ من أن تمتد أصابع الصراع بين الخطّين إلى المجال الأخلاقي. وما دام الأمر كذلك فعلينا ألا نُبتزّ من المقولة التي تصور أي حديث عن الأخلاق ابتعاداً عن العلم والفكر الثوري والسياسة. لأنها لا ترى العلاقة العضوية بين كل ذلك. ولكنها لا بدّ من أن ترى تلك العلاقة حين تجد الصراع يمتد إلى مجال الأخلاق لا محالة.
إن تجربة ثورتنا بقيادة فتح علمتنا أن هنالك عدداً من القيم الأخلاقية والتي هي شرط من شروط انتصار حرب الشعب، ليست شيئاً لا معنى له، أو لا علاقة له بالسياسة والثورة. إن تلك القيم التي هي استمرار لتراث ثوري تاريخي مجيد لأمتنا العربية لا يمكن إلا أن تتأكد وتكرس وتطور عبر حربنا الشعبية.
إذا لم يتشرب الثوار حملة البنادق بالأخلاق الثورية ويعطوها الاهتمام اللازم، فلن يستطيعوا أن يخدموا الثورة والجماهير، وإذا لم يصارعوا في ميدان الأخلاق كجزء لا يتجزأ من صراعهم ضدّ العدو، وكذلك من صراعهم الداخلي ضدّ الخطوط السياسية والفكرية الخاطئة والمنحرفة، فإنهم لن يستطيعوا السير بقضيتهم الثورية حتى النهاية.
نعم هنا يكمن صراع بين الخطّين أيضاً.
إذا كان النضال ضدّ العدو يحتاج إلى الجرأة، ويحتاج إلى التجرؤ على خوضه فإن الجرأة في الحالتين تختلف باختلاف الحالتين. ولكنها تلتقي في الجوهر من حيث الطبيعة الطبقية مع الأفكار التي نحملها. كما أن التشرب بفكرة الجرأة على النضال ضدّ العدو والتجرؤ المستمر على خوضه، ترتبط بوحدة عضوية مع التشرب بفكرة الجرأة على النضال ضدّ أخطائنا ونواقصنا والتجرؤ على خوضه. إننا نحمل التجرؤ على خوض النضال ضدّ العدو لأننا نريد خدمة الشعب وانتصار الثورة. وكذلك نحن نحمل فكرة التجرؤ على خوض النضال ضدّ أخطائنا ونواقصنا لأننا نريد خدمة الشعب وانتصار الثورة. كما أن كل خطوة نحرزها على طريق النضال ضدّ أخطائنا ونواقصنا تعني التقدم خطوة إلى الأمام في النضال ضدّ العدو. ولهذا فنحن لا نستطيع أن نكون متماسكين إذا تشربنا بروح الجرأة على خوض النضال ضدّ العدو وبقينا متقاعسين أو جبناء في مواجهة أخطائنا ونواقصنا. كما أن روح الجرأة على خوض النضال ضدّ العدو سوف تبقى معرضة للانتكاسة إذا بقينا متقاعسين أو جبناء في مواجهة أخطائنا ونواقصنا.
من هنا إن الخطّ الفكري الذي يعتبر بأن التجرؤ على خوض النضال ضدّ العدو يكفي، ولا يقرنه بالتجرؤ على النضال ضدّ الأخطاء والنواقص، إنما يشكل اتجاهاً فكرياً خاطئاً، ولا بدّ من خوض الصراع الفكري ضدّه باتجاه تكريس فكرة التجرؤ على خوض النضال ضدّ أنفسنا وضدّ أخطائنا ونواقصنا.
لقد أظهرت تجربتنا في الحرب الشعبية الطويلة إن التجرؤ على خوض النضال ضدّ النفس، وضدّ الأخطاء والنواقص، أصعب من التجرؤ على خوض النضال ضدّ العدو. إن عملية التعرض للنفس، لأخطائنا ونواقصنا، تشكل الجهاد الأكبر وتحتاج إلى التحلي بقناعة فكرية عالية بقضية الثورة والالتزام بقضية الجماهير وبضرورة التحول إلى جزء من حركة الجماهير الثورية. لأنه بدون مثل هذه القناعة الفكرية لا يكون هنالك مسوغ للمساس بعاداتنا ومسالكنا وممارساتنا ونقد أخطائنا السياسية والفكرية. وهنا تسود المكابرة والغرور وعدم الثقة بالجماهير وعدم الحرص على الثورة والخوف من اهتزاز الهيبة والمكانة. وحين تكون السيادة لهذه كلها فإن مواجهة أخطائنا ونواقصنا تصبح أصعب من التجرؤ على مواجهة العدو.
من هنا علينا أن نتمسك بالخطّ الفكري الذي يكرس الجرأة على النضال ضدّ أنفسنا، ضدّ أخطائنا وضدّ نواقصنا، ودخول الصراع ضدّ الخطّ الفكري الذي يتقاعس أن يجبن في النضال ضدّ النفس وضدّ الأخطاء والنواقص. نعم، يجب أن يجري هذا الصراع ونحن نكرس خطّ الجرأة على النضال ضدّ العدو.
عندما نقيّم عملاً ما، أو نقيّم ذلك الأخ أو تلك الأخت، ترتفع الأصوات بإبراز النواقص والسلبيات والأخطاء. وتنهال الملحوظات بهذا الاتجاه بلا حساب نوعاً وعدداً. ويظن البعض أنه قد اكتشف اكتشافاً لم يسبقه أحد عله حين يعدد النواقص والسلبيات والأخطاء. غير إنه في الحقيقة لا يكون قد اكتشف شيئاً البتة. ذلك لأن شقّ طريق الثورة يعني أن الأرض وعرة وبحاجة إلى أن تشقّ فيها الطريق. ولهذا عندما تنهال الملحوظات عن الحجارة غير المرصوفة والأشواك والصخور والنتوءات والمنخفضات والتعرجات، فهي لا تكون قد اكتشفت شيئاً جديداً أبداً، لأن الأرض وعرة أصلاً وهذا هو وجهها الرئيسي، بينما الشيء الذي يحتاج إلى تسليط الأضواء عليه هو ما تمّ من شقٍّ للطريق، وما رصف من أحجار، وما اقتلع من أشواك، وما مهد من نتوءات، وما سوي من منخفضات، وما عولج من انحناءات. ومن ثم يسلط الضوء على تلك القطعة من الوعورة التي وصلتها الطريق وجاء دورها لكي تشقّ وتسوّى. إن الطريق يجب أن تشقّ كلها، وأن الوعورة يجب أن تزال كلها أيضاً، إلا أن ذلك كله لن يتمّ بضربة واحدة ولا دفعة واحدة، وإنما سيمرّ عبر عملية طويلة... وخطوة إثر خطوة.
إلا أننا إذا ترجمنا هذا التشبيه وعدنا إلى بحث موضوع النواقص والسلبيات والأخطاء في عمل ما، أو في الوضع ككل، أو لدى الأفراد، فإننا ننطلق من أن هذه النواقص والسلبيات والأخطاء هي الأصل، ونحن نشقّ طريقنا إلى نقيضها. فلو أخذنا مظهراً مثل: الأنانية، الخوف، الإهمال، الغرور، الفردية، الفوضى، العلاقات العشائرية، النظرة الذاتية، ضعف الوعي، الممارسة الخاطئة، العمل بلا خطة، الارتجالية، التسلط، القمع، الاستهتار، الحسد، حبّ الظهور، الادعاء، إلخ... إلخ... فسنجد أن كل هذه الظواهر هي الأصل في وضعنا وهي مختبئة تحت جلودنا. إنها تقاليد الطبقات الحاكمة وتربيتها التي نشرتها في كل مكان. وهي لهذا تحيط بنا من كل جانب حتى عندما نثور ضدّها، ونسعى لإعادة صياغة أنفسنا، وإعادة ترتيب وضعنا على أساس من نقائضها. إلا أن هذه العملية تحتاج إلى نضال شاقّ وطويل. ومن ثم فهي عملية شقّ الطريق في الأرض الوعرة. ولهذا علينا أن نصفق حين نرى نقيضا لها ونسلط عليه الضوء، وعلى الخطوة الثانية التي سنقوم بها. أما الذين يظنون أنهم قد اكتشفوا اكتشافاً جديداً حين يكتشفون النواقص والسلبيات والأخطاء فهم أولئك الذين يتصورون أن الانتقال الكيفي إلى نقيض تلك النواقص والسلبيات والأخطاء يتمّ بمجرد صدور قرار إدانتها والتحول إلى نقيضها أي بضربة واحدة، ودفعة واحدة.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى وعينا وتحليلنا ظروف بلادنا، وبالنسبة إلى ممارساتنا على صعيد التنظيم، والعمل العسكري، والقيادة، والعمل الشعبي، إلخ... إنهم لا يرون أن الأصل هو مرتبة محدودة من الوعي وصحة التحليل والممارسة في مواجهة وضع جديد أرقى يتطلب درجة أعلى من الوعي والتحليل والممارسة وتلخيص الخبرات، ومن ثم وجوب تسليط الضوء على ما أنجز إيجابياً في هذه المجالات وعلى الخطوة التي تلي وليس على كل ما لم ينجز.
إذاً فالمسألة هنا تنبع من الفهم العميق لعمليات الانتقال من عقلية إلى عقلية، ومن أفكار إلى أفكار، ومن ممارسات إلى ممارسات. إنه الفهم العميق لعملية إعادة صياغة النفس. وإن هذا الفهم يرتكز على أن تلك العمليات لا تنجز بضربة واحدة، ولا بعشر ضربات، وإنما بمواصلة الضربة وراء الضربة. فكلما تحققت خطوة بقي أمامنا خطوات وخطوات. وهذا يعني إن النواقص والسلبيات والأخطاء ستبقى موجودة وموجود بكثرة. وما دام الأمر كذلك فعلينا أن نعرف في كل مرة ما هي الحلقة الرئيسية التي يجب علينا الإمساك بها، وما هي الحلقة الرئيسية التي يجب كسرها. أين نضجت الظروف وتوفرت الشروط لشنّ الهجوم على هذا النقص أو ذاك، على هذه السلبية أو تلك، على هذا الخطأ أو ذاك. وبعبارة أخرى هذه العقلية أو تلك، هذه الفكرة أو تلك، هذه الممارسة أو تلك، هذه العادة أو تلك وهكذا... إن مسألة التقدم في هذا الصراع لا يتوقف على رغباتنا الذاتية فحسب وإنما أيضاً على نضوج الظروف وتوفر الشروط لكي يكون بالإمكان التقدم به.
هذا ويمكن أن نقدم هنا نموذجاً مبسطاً على مثل هذه العمليات عند ملاحظة انتقال الطفل من حالة عدم القدرة على الكلام إلى حالة القدرة على الكلام، من حالة المعرفة المحدودة لفهم الكلمات والجمل والتعبير بها إلى حالة المعرفة الأوسع للكلمات والجمل. إنه لمن السهل أن نرى طفلا ابن سنتين ونقول: هذا الطفل لا يستطيع الخطابة، ولا يعرف القراءة ولا الكتابة. وإن معرفته بشؤون اللغة واستخدامها مليئة بالنواقص والسلبيات والأخطاء. إن قولاً مثل هذا القول سوف نراه مضحكاً وسخيفاً. ذلك لأن والدي الطفل ومن حوله يعرفون أن الأصل هو عدم قدرة الطفل على فهم الكلمات والجمل، وعدم قدرته على النطق والتعبير بها. فإذا ما نطق الطفل بكلمة جديدة، أو ركّب جملة شبه صحيحة فإنهم يفرحون بسبب هذا التقدم ويشجعونه عليه. ويسعون لكي يتقدم خطوة أخرى. أو ليس هذا هو المنهج الصحيح في معالجة الأمور الذاتية والموضوعية؟
إذن علينا أن نخوض الصراع، وعلينا أن نواكب خطوات التقدم، وعلينا أن نقوم بالقفزات النوعية. ولكن ضمن فهم عميق لكيف يتمّ ذلك وما هي قوانينه.
ثمة مجموعة من العادات تشكلت عند بعضنا منذ الصغر ونمت وترعرعت مع نمونا وترعرعنا. ولم يكن هنالك من نضال للتخلص منها. لأن الشيء الدارج في بلادنا وفي مجتمعنا هو أن يشيخ الإنسان على ما شبّ عليه. ولا ينظر لعادات معينة على أن من الضروري العمل على تغييرها والتخلص منها. لذا تسمع من يقول هكذا أنا. فالذي يعجبه فأهلاً وسهلاً. والذي لا يعجبه فمع ألف سلامة.
من هذه العادات عادة النرفزة والعصبية، وهذه العادة هي أكثر العادات السيئة شيوعا. ولكنها تعبر عن نفسها بدرجات متفاوتة بين المناضلين والمقاتلين. وإن أخطر ما فيها هي أنها تنمو مع الإنسان منذ الصغر. ومن ثم فإن التخلص منها بحاجة إلى خوض النضال الشاقّ العنيد ضدّ النفس. قد تكون ممارسة هذه العادة في الحياة العادية أقل خطورة. ولكنها حين تمارس بين المناضلين والمقاتلين فسلبياتها كثيرة. وفي مقدمة هذه السلبيات أنها تأخذ طابع القهر والكبت. ولعل من سلبياتها أيضاً أنها تضيع القضية الجوهرية التي تنقل المرء إلى النرفزة والعصبية وهو يدافع عنها أو يسعى إلى تكريسها. فالذي يلجأ إلى النرفزة والعصبية والحق معه فلسوف يضعف من هذا الحق. لأن ممارسة التعبير عنه بمسلكية عصبية سوف تؤدي إلى تمسك الآخرين بالجانب الشكلي من الموضوع وهو العصبية والنرفزة ليعملوا منه قضية. ويصبح بحدّ ذاته مشكلة. بدلاً من أن يبقى جوهر الموضوع هو المشكلة الأصلية المطلوب حلها. إنها تمنع الحوار الإيجابي الأخوي، ولا تساعد من يتصرف بعصبية على التصحيح إذا لم يكن الحق معه. ولهذا يمكن القول إن العصبية والنرفزة لا تحلّ مشكلة ولا تنصر حقا. كما أنها لا تساعد على الإقناع وعلى بناء علاقات تقوم وفق أسس صحيحة في التعامل وفي معالجة القضايا وحلّ المشاكل بل تزيد الأمور تعقيداً.
كذلك من بين تلك العادات السيئة بعض العادات التي تتعلق بالطريقة التي نتحدث فيها أو نجادل فيها أو نعبر فيها عن أنفسنا، حيث تظهر هنا عادات مثل عادة المقاطعة في الحديث، أو عدم التعود على الإصغاء جيداً، أو كثرة الكلام دون إعطاء فرصة للآخرين لكي يتكلموا، أو اللجوء إلى عبارات استفزازية أثناء النقاش أو عدم وزن الكلمة قبل النطق بها، أو عدم التركيز في الجدل على نقطة أو نقاط محددة، أو عدم السعي لفهم ما يقوله الآخرون، وإنما اقتطاف جزء والتمسك به، أو قول ما في رأسنا دون أن يكون له علاقة بالحديث، أو إظهار التبرم أو التهكم حين نسمع رأياً مخالفاً، أو التدفيش مدافشة في الكلام، أو الدخول في الكلام لمجرد الرغبة في المشاركة والإعلان أننا هنا موجودون حتى لو كان ذلك الدخول خارجاً عن الموضوع أو تكراراً لما قد قيل. إن كل هذه العادات وأمثالها هي من عادات المثقفين أو الذين يحاولون تقليد المثقفين. مما يتطلب مراقبة الطريقة التي نتحدث فيها أو نجادل فيها أو نعبر فيها عن أنفسنا ومحاولة تطويرها بالتخلص من العادات السيئة، وتعود العادات الثورية في توجيه الحديث وفي تعلم الهدوء وفي احترام الآخرين، وفي الاستماع الجيد إلى من يتحدث، وفي أخذ الكلام في الوقت المناسب. وأن نكون محددين ومركزين. وأن نحذر الحذر الشديد من اللجوء إلى الاستفزاز أو التهكم أو التبرم إذا سمعنا شيئاً لا يعجبنا أو لا نوافق عليه.
يجب أن نلاحظ إن هذا الخطّ في العادات التي يجب علينا أن نتعودها بالنسبة إلى الطريقة التي نتحدث فيها ونحاور فيها، هو أقرب ما يكون إلى أسلوب الناس البسطاء في بلادنا - أي الكادحين من عمال وفلاحين فقراء. حيث يسمعون كثيراً ويزنون كلامهم. ويحترمون من يحادثهم وخاصة في الاجتماعات العامة والجلسات التي تحوي على عدد من الناس. طبعاً على المناضلين الثوريين التعلم من هذه العادات وتطويرها بما يتناسب مع نشاطهم الثوري.
إن الموقف من العادات السيئة واستمرارها مسألة خطّ فكري. كما أن النضال الشاقّ ضدّها والسعي لتعود العادات الثورية مسألة خطّ فكري أيضاً، ومن ثم لا بدّ من أن نخوض الصراع بين هذين الخطّين.
لنقضِ على نزعة التذمر
نزعة التذمر المستمر من الوضع ومن الأشياء التي حولنا هي إحدى صفات فئات من المثقفين وأمثالهم من التجار الصغار والموظفين والوجهاء وملاك الأرض الصغار، فهم دائمو الشكوى والانتقاد ليس ضدّ الاستعمار والسلطة فحسب، وإنما ضدّ الشعب أيضاً. وهم دائماً متأففون من عادات الشعب وحياته. يجعلون من قضية النظام قميص عثمان، ويجعلون من قضية النظافة قميص عثمان إلخ. إن الكلمة الدائمة التي تدور على لسانهم هي أن "الشعب متخلف". هذا ولا يتورعون عن استخدام تعبير: "الطبقات الواطئة"، "الناس الجهلة". أما من الجهة الثانية فهم يبحثون دائماً عن قنص نواقص زملائهم وأقرانهم، ولا يتحدثون إلا عن السلبيات، هذا إذا لم يذهبوا إلى أبعد من ذلك، إلى نهشهم وأكل لحومهم ميتا.
إن هذه النزعة تعكس نفسها في العمل الثوري من خلال نزعة التذمر المستمر من النواقص. فهم يريدون أن يسير كل شيء بنظام تامّ - على المسطرة - المواعيد يجب أن تكون دقيقة، وأي خلل تقوم الدنيا له وتقعد، وإذا حضروا دورة عسكرية، أو مهرجاناً، فيجب أن يطبق البرنامج بدقة متناهية. ويجب أن يكون مستوى التدريب والكوادر على أعلى مستوى، وإذا حدث أي خلل فإن التذمر يأخذ مداه يميناً وشمالاً. ولما كانت النواقص شيئاً سائداً أصلاً، ولما كان كل عمل لا يمكن أن يتقدم إلا عبر طريق متعرج - نقاط ضعف، صعوبات، نواقص، فشل، نكسات، فهذا يعني أن لديهم مادة دسمة للتذمر المستمر. إنهم بهذا ينكدون حياتهم وينكدون حياة زملائهم، وهم يؤزمون أنفسهم ويؤزمون معهم الوضع من حولهم. الأمر الذي يضيف إلى الصعوبات القائمة التي يتذمرون منها صعوبات جديدة.
وعندما يلفت النظر إلى خطأ نزعة التذمر يطلقون حجة مفادها: هل يجب أن نستسلم للنواقص ولا نكافحها؟ وهل يمنع النقد؟ المسألة هنا تتركز بالضبط في التفريق بين رفض نزعة التذمر، وبين ممارسة النقد. إن القضاء على نزعة التذمر لا يعني الاستسلام للنواقص وعدم مكافحتها، ورفض نقدها بل العكس هو الصحيح. إن نزعة التذمر هي التي تؤدي إلى الاستسلام ليس للنواقص وحسب، وإنما الاستسلام أيضاً للتأزم النفسي وربما إلى الهروب من العمل الثوري وتركه نهائياً.
إذن يجب أن يكون هنالك وضوح تامّ في الصراع ضدّ نزعة التذمر. وعدم السماح لها بالاختباء وراء حجة النقد ومكافحة النواقص. وذلك من خلال تكريس فهم الموضوعتين الأساسيتين التاليتين: الأولى إدراك أن كل تقدم لا يمكن أن يتمّ إلا على طريق متعرج من فشل ونواقص ونكسات وصعوبات. ومن ثم إن هذين الجانبين التقدم والتعرج يشكلان وحدة الضدّين اللذين يتحولان إلى بعضهما بعضاً. مع التأكيد على أن التيار الأساسي هو التقدم. أما الموضوعة الثانية فهي الإدراك بأن لممارسة النقد ولمكافحة النواقص - أو التقدم - قوانين محددة في كل مرة. بحيث يكون بالإمكان أن نقطع شوطاً محدداً دون أن تقضي على كل النواقص بضربة واحدة. ومن هذه القوانين أن عملية النقد إذا امتزجت بروح التذمر فلن تصل إلى غاياتها وإنما تنقلب إلى نقيضها. وهذا يعني أن النقد يجب أن يحمل دائماً وعياً لقانون التقدم المتعرج، لقانون تحديد الأولوية في كل مرة، وللنفس الطويل، وللروح الإيجابية الأخوية المتفائلة. وكذلك للإصرار على التقدم عبر التغلب على الصعوبات.
لقد مرّ علينا في تجربة الثورة في لبنان حالات أخرى من نزعة التذمر هذه:
1 - التذمر الذي ينشأ بسبب تأخر إنجاز الطعام أو بسبب نقص الطعام حيث يبدأ الصراخ والنكد بدلاً من أن يعالج ذلك بالصبر والاحتمال، ومن ثم يصار إلى رؤية كيفية معالجته.
2 - التذمر الذي ينشأ بسبب الاستمرار في النضال الشاقّ ومواجهة الصعوبات والمعارك. لقد برزت هذه النزعة لدى البعض بعد مشاركتهم في معركتين أو ثلاث وخلال شهرين أو ثلاثة أشهر أو أكثر، وبعد أن أنجزوا إنجازات مهمة، يبدأون بالتذمر عندما يطلب منهم المساهمة في معركة جديدة أو في موقع جديد. وتكون حجتهم هي أنهم قاموا بأكثر مما هو مطلوب منهم وجاء الآن دور الآخرين فلماذا يطلب منهم المساهمة مرة أخرى. إن هذا المظهر لنزعة التذمر شأنه شأن المظاهر الأخرى، يحمل سمات قصر النفس، والنظرة الذاتية، والتفكير الأناني. والفرق بينه وبين الخطّ الفكري الصحيح، هو أن الثاني يرى أنه كلما حقق إنجازاً عليه أن يزداد تواضعاً، واستعداداً لتقديم المزيد من الإنجازات والتضحيات للثورة. فهو يرى أنها رحلة العمر بأكمله في مواصلة الثورة، وليست مجرد الدخول في بضع معارك وتحقيق بضعة إنجازات.
لنقضِ إذن على نزعة التذمر، ولنكرس الخطّ الفكري الصحيح، والخطّ السياسي الصحيح، في النقد ومكافحة النواقص، وفي كيفية رؤية العالم والثورة.
إن الاطلاع على النظريات الثورية، وتجارب الشعوب الأخرى، يولد عند البعض ظاهرة الإحساس بامتلاك المعرفة، ومن ثم يولد اتجاه الأستذة على الشعب وعلى المناضلين والمقاتلين البسطاء. ولكي يمارس الأستذة لا بدّ من تحضير الوصفات الطبية سلفاً، وتجهيز الصيغ والشعارات، وتصوير ما يجب أن يعمل سلفاً.
هذا الشيء نفسه يحدث في الحياة الاجتماعية خارج النضال والثورة. فهنالك دائماً "الأساتذة" الذين جهزوا أنفسهم ببعض الوصفات والصيغ والإرشادات لتخليص "المجتمع من أمراضه". وتستقي هذه الظاهرة أرضيتها من تلك النظريات التي تقول إن العلم موجود في الكتب وخلف مقاعد الدراسة في الكليات والجامعات وإن الشعب جاهل، ولا بدّ من الأساتذة المرشدين للأخذ بيده وإدخال بعض النور إلى الظلام الذي يعيش فيه، ويجيء دور هؤلاء الأساتذة ليعطوا دورهم الممتاز كل سماته من ممارسة الأستذة إلى التأكيد على الأستاذية إلى قمع الشعب ليقبل بأستاذيتهم.
عندما تنتقل هذه الظاهرة إلى ميدان النضال والثورة تأخذ شكلها بتحضير الوصفات الجاهزة من الكتب ومن تجارب الشعوب الأخرى. فتحاول فرضها على العمل الثوري، ولهذا فالنضال عملية تلقين. إنه أستذة على الشعب وعلى المناضلين والمقاتلين البسطاء. ولكن هذه الظاهرة حين ضيق عليها الخناق من خلال رفض موضوع "الشعب الجاهل"، والتأكيد بأن الشعب معلم، ويكتنز ثروات هائلة من المعارف والتجارب، وبأن الأستذة والأساتذة يتحولان إلى صنج يطن إذا ما ابتعد عن الشعب والمناضلين وسائر المقاتلين البسطاء، وإن فهم ما في الكتب واستيعاب تجارب الشعوب الأخرى لا يؤهل أحداً ليصبح أستاذاً على الشعب. وإنما الذي يكسبه القدرة لكي يعلّم هو أن يكون تلميذاً نجيباً في مدرسة الشعب والثورة. وعليه أن يحقق جيداً، وأن يبحث عن الأفكار الصائبة التي يحملها الشعب والمناضلون والمقاتلون البسطاء. ومن ثم يصبح بمقدوره أن يعود بتلك الأفكار بعد إعادة صياغتها النظرية ليتعلم منها الشعب والمناضلون والمقاتلون البسطاء. وكذلك بالنسبة للصيغ، وأشكال التنظيم، والإجراءات، وأشكال النضال إلخ... إلخ.
ثمة ظواهر أخرى لعقلية الأستذة هذه تبدو في تصرفات بعض الكوادر حين يتعاملون مع أخوة لهم أقل تجربة أو أحدث عمراً في النضال؛ فيعاملونهم كتلامذة ما عليهم إلا أن يتعلموا منهم ويسلموا لهم القياد تماماً. دون أن يلاحظوا ما يمكن أن يتعلموه هم من أولئك الكوادر من معارف وخبرات خاصة، في نقاط محددة يمارسون فيها. فإذا كان الكادر يعلّم العنصر فعليه أن يتعلم هو منه أيضاً. وأن لا تقوم العلاقة بينهما كعلاقة الأستاذ بالتلميذ.
قد يتصور البعض أن في هذا الطرح تقليلا من أهمية ما في الكتب الثورية من معرفة، أو تقليلا من تجارب الشعوب الأخرى. هذا غير صحيح. إن النار هنا موجهة إلى اتجاه الأستذة، وإلى اتجاه الصيغ الجاهزة، وإلى اتجاه التعامل مع الشعب والمناضلين والمقاتلين البسطاء على أنهم جهلة يعيشون في الظلام. وما عليهم إلا أن يأخذوا العلم من الأساتذة. إن النار هنا موجهة إلى الأفكار التي تتولد عنها ممارسة محددة تقيم العلاقة بين الكوادر وبين الشعب، وكذلك فيما بين الكوادر أنفسهم، وفيما بين الكوادر والعناصر على أسس شبيهة بعلاقة الأستاذ بالتلاميذ، أو بعلاقة معلم المهنة بالأجراء، أو بعلاقة التقني بالعمال.
إن رفض نزعة الأستذة هذه لا يتمّ بادعاء التواضع أو بعدم التمسك بالمبادئ أو عدم الدفاع بحرارة عن الخطّ السياسي الصحيح والخطّ الفكري الصحيح. لأن هذه كلها تشكل الوجه الآخر للأستذة وهي ساتر جيد لممارستها. فالتواضع، يجب أن يكون حقيقياً لا ادعاء. والتمسك بالمبادئ والدفاع الحار عن الخطّ السياسي والخطّ الفكري الصحيح يشكلان شرطاً من شروط ضرب نزعة الأستذة. أما من الجهة الأخرى فنقيض الأستذة يعبر عن نفسه بالاجتهاد الجادّ للتعلم من الشعب ومن الأخوة الآخرين ومن التجارب. كما يعبر عن نفسه بدراسة الكتب الثورية، وتجارب الشعوب الأخرى مع رفض تحضير الوصفات الجاهزة، وتهيئة الصيغ والشعارات سلفاً، واللجوء إلى تلقينها وفرضها على الشعب والثورة فرضاً.
لا مفرّ من الصراع بين الخطّين في هذا الميدان.
لقد برزت ظاهرة البحث عن الانسجام المزاجي بين بعض المقاتلين والمناضلين. إن المقصود بالانسجام المزاجي هو أن يرفض المقاتل أو المناضل أن يعمل مع أخوة لا يعرفهم أو لا ينسجم معهم، ويصرّ على العمل مع المجموعة التي يرتاح لها.
حقاً إن تحقيق الانسجام والتناغم بين أفراد المجموعة المقاتلة أو المناضلة التي تعمل سوياً مسألة ضرورية؛ لأنها تعطي ثقة أكبر، وتساعد على تذليل الصعوبات وتكريس العمل الجماعي وتجعل القيام بالمهمات يحمل شروطاً أفضل للنجاح. ولكن ذلك لا يعني أن تحقيق الانسجام والتناغم يحدث من تلقاء نفسه. كما أنه إذا حدث بالنسبة لمجموعة فهذا لا يعني أن أفراد تلك المجموعة يجب أن ينغلقوا على بعضهم بعضاً. ويصبح صعباً على أي منهم التعاون والعمل مع مجموعة أخرى وفي جو آخر غير جو مجموعته. إن نشوء مثل هذا الاتجاه الفكري على هذه الصورة لا يرتكز على موضوعة ضرورة تحقيق الانسجام والتناغم بين أفراد المجموعة إلا من حيث الادعاء والظاهر. ولكنه في الحقيقة ينبع من عقلية شللية يسيطر عليها الركض وراء المزاج الفردي الخاص.تماماً كما يحدث في خارج الثورة بين شلل الأصدقاء. ذلكم هو منبع هذا الاتجاه الفكري مصدراً إلى صفوف العمل الثوري. ولكن لماذا لا يستند إلى الموضوعة القائلة بضرورة تحقيق الانسجام والتناغم بين المجموعة المقاتلة إلا ادعاء ومن الظاهر؟ ذلك لأن هذه الموضوعة تتطلب النضال وبذل الجهود لتحقيق الانسجام والتناغم بين أفراد المجموعة المقاتلة. فعندما تفرض ظروف الثورة - وهذا ما يحدث غالباً - أن ينتقل فرد من مجموعة إلى مجموعة أخرى، أو من موقع إلى موقع آخر، فهذا يعني أن الوجه الرئيسي لعمله أصبح العمل مع المجموعة الجديدة أو في الموقع الجديد. مما يتطلب منه أن يغلب هذا الوجه الرئيسي لا أن يغلب مزاجه الخاص الفردي. أما من الجهة الأخرى فإن في موقفه هذا تخلياً عن موضوعة ضرورة تحقيق الانسجام والتناغم في المجموعة المقاتلة. وإلا عليه أن يغلب الوجه الرئيسي أولاً وقبل كل شيء، أن يناضل ويبذل الجهود المخلصة للاتحاد والانسجام مع المجموعة الجديدة أو في الموقع الجديد. بل عليه أن يناضل ويبذل الجهود الصادقة لكي يسهم في تحقيق الانسجام والتناغم فيها في حالة عدم توفره أصلاً. أما أن يمانع فوراً بالانتقال إلى المجموعة الجديدة أو إلى الموقع الجديد. أما إذا أجبر على الانتقال فتسود الدنيا في وجهه، ويشعر وكأنه قد دخل سجناً. ومن ثم يأخذ في معالجة الوضع الجديد إما بالتذمر المستمر، وإما بخلق المشاكل، وإما بالانطواء على نفسه، مع السعي المتواصل لعودته إلى مجموعته الأولى، التي يجب أن تسمى في هذه الحالة شلة لا مجموعة. لأنها ستفقد في هذه الحالة صفة المجموعة المقاتلة أو المناضلة.
هنالك الشكل الآخر لهذا الاتجاه الخاطئ وهو عدم القدرة على التعامل مع الآخرين الذين هم من تنظيمات أخرى أو هم من المستقلين أو من الذين لا يحملون أفكاره وسياساته. إن هذا الاتجاه الفكري الذي يولد ممارسة محددة يتناقض مع العمل الجبهوي العريض ويتناقض مع الخطّ الفكري الصحيح الذي يسعى للاتحاد في الثورة مع الذين بيننا وبينهم اختلافات وتناقضات.
كما يسعى لكسب المستقلين وتطويرهم عبر تعاون طويل. طبعاً إن ذلك ليس سهلا ولا ينسجم مع "المزاج". ويتطلب التنازلات والتحمل والصبر والنفس الطويل، مع خوض الصراعات المناسبة التي تدار باتجاه تحقيق التفاهم والاتحاد.
هنا أيضاً لا بدّ من ممارسة النقد والنقد الذاتي لإعادة صياغة أنفسنا بالخطّ الفكري الصحيح. وخوض الصراعات ضدّ الأفكار التي تولد البحث عن الانسجام المزاجي الفردي المنغلق. إن حصيلة هذه الصراعات يجب أن تعلمنا كيف نتحد مع الذين لا يتفقون معنا بالرأي داخل حركتنا وفي صفوف الثورة.
لا تستطيع الثورة أن تخوض المعارك السياسية والعسكرية إذا لم يكن هنالك مستوى جيداً من النظام والانضباط. أما التصرفات المنفلتة من عقالها، والاتجاهات التي تستخف بالنظام وبالانضباط، فتشكل اتجاهاً خاطئاً يلحق الأضرار بالثورة. وإذا كان الصراع بين هذين الخطّين مسألة يومية ولا بدّ من خوضه بالنفس الطويل والتثقيف الدائم، فإن أخطر ما يمكن أن يواجهنا في هذا الصراع، تلك التنظيرات التي تتستر وراء الديمقراطية لتسوغ الانفلات والانفلاش. وتسوغ الاستخفاف بالنظام والانضباط. ولهذا لا بدّ من خوض الصراع أيضاً ضدّ إعطاء الديمقراطية محتوى يتناقض مع الوحدة والنظام والانضباط. إن هذا المحتوى للديمقراطية ينبع من اتجاهات المثقفين الذين لا يقوون على تحمل الالتزام المنظم في العمل الثوري، فيشوهونه لتغلب نزعاتهم الفردية المزاجية. لقد علمتنا تجربتنا في فتح ونحن نخوض تجربة الصراع الراهن في لبنان أن هذه الظواهر ليست شيئاً عرضياً، وإنما لها الأرضية التي تقوم عليها. ومن ثم فالحاجة ملحة لخوض الصراع ضدّها.
إن الخطّ الفكري الصحيح ينطلق من إعطاء الديمقراطية محتوى يقوم على أساس التمسك بالديمقراطية التي تقود إلى الاتحاد والانضباط والنظام والعمل الموحد. وليس الديمقراطية التي تقود إلى الانقسام والانفلات والاستخفاف بالنظام وبالانضباط. فالديمقراطية في الثورة تقوم على أساس خدمة الشعب وليس كمتنفس لنزعة الانسياق وراء المزاج الشخصي والفردية، أو لتوليد الانفلاش في العمل والفوضى والانشقاقات. إنها ليست مهرباً من الالتزام الثوري واحترام الانضباط الثوري والنظام الثوري. كما أنها ليست ستاراً للطعن من وراء الظهر، وفقدان الصدق والصراحة والمواجهة الشريفة.
حقاً هنالك اتجاهات تشكل الوجه الآخر لعملة هذا الاتجاه بل أحياناً كثيرة هي هذا الاتجاه بالذات، عندما يكون النظام والانضباط يخصان سلطته ومملكته. أي الدوس على الديمقراطية التي تهدف إلى خدمة الشعب، وتسعى إلى الاتحاد والانضباط والعمل المشترك. وذلك عن طريق استبدالها بالقمع تحت حجة فرض النظام والانضباط. إنه الاتجاه المتزمت في حارته والمنفلت من كل عقال في الحارات الأخرى ولا يرى للانضباط محتوى سياسياً.
ولهذا فإن الصراع ضدّ نزعة الديمقراطية المفلشة التي تستخف بالنظام والانضباط، يرتبط بالصراع ضدّ نزعة دوس الديمقراطية والسياسة بالقمع، تحت حجة فرض النظام والانضباط.
إنه لقانون عام أن يخوض الخطّ السياسي الصحيح والخطّ الفكري الصحيح الصراع ضدّ الخطّين المقابلين اللذين يشكلان وجهين لعملة واحدة.
2 - خطّان في مواجهة المسؤولية
تعني المسؤولية، خارج الثورة، أي في الدولة والمؤسسات والشركات وفي العديد من الأحزاب، موقعاً يعطي صاحبه سطوة ونفوذاً، فضلاً عن المنافع الخاصة وسائر الامتيازات والمكاسب. لذلك إن السعي لكي يصبح المرء مسؤولاً مسألة تستولي على عقول الموظفين والكوادر والقيادات، سواء في الدولة والمؤسسات أو في الشركات والأحزاب. وعندما ينال الواحد مرتبة ما من مراتب المسؤولية، تطلّع إلى ما هو أعلى. لأن ذلك يعني مزيداً من السطوة والنفوذ ومزيداً من المنافع الخاصة ومن المكاسب والامتيازات. وتتشكل على هذا الطريق مجموعة من الأفكار والمسالك مثل حبّ التسلط وتأكيد المسؤولية بالنسبة لمن هم دون ذلك؛ فالمسؤول يؤكد بأشكال عديدة وأحياناً صراحة أنه مسؤول. ويجب أن يذكر الآخرين دائماً أنه هو المسؤول. ويغضب حين يتمّ أي تجاوز من قبل الآخرين على مسؤوليته. خاصة إذا كانوا دونه أو في موازاته. ولهذا يفتح معركة لتأكيد مسؤوليته. وتنمو اتجاهات أخرى لا تشعر أن بمقدورها القيام بالعمل إذا لم تكن في موقع المسؤولية. وإذا حدث وأسندت لها مهمة لا تكون فيها في مرتبة المسؤول فإنها تمتعض وتتراخى وقد يطير صوابها. وربما سعى بعضها إلى إفشال المهمة. هذا فضلاً عن الحملات والتحريض والصراعات احتجاجاً على المسؤول. وذلك لأنه في المكان الذي يجب أن تكون هي فيه.
هذه العقلية متأصلة في أوساط عديدة من الشباب المثقفين وأبناء الملاكين الصغار، والفنيين الذين كان يهيئهم "المجتمع" لكي يكونوا ضباطا وموظفين وإداريين (مسؤولين). ولكن كثيرين من هؤلاء يجذبهم النضال الوطني والثورة. وينجذب بعضهم إلى الحركات الثورية. ويصبحون كوادر مهمة وقيادات (أي مسؤولين). وهذا على التأكيد شيء حسن وإيجابي، ويخدم الثورة. غير أن هؤلاء يحتفظون بنزعة التطلع إلى المسؤولية ويحملون عدداً من أفكار السير على طريق الوصول إلى المسؤولية وممارستها. ولهذا ينقلون تلك الأفكار وتلك النزعات والمسلكيات تجاه هذه المسألة إلى العمل الثوري. وبهذا يعاملون المسؤولية يتصرفون في الثورة وفي مواقع النضال، كما يتصرف أقرانهم في الدولة والمؤسسات والشركات. فهنالك من يؤكد في كل لحظة مسؤوليته، ويحول نطاق تلك المسؤولية إلى مملكة وإقطاعية، والويل لمن لا يحترمها أو يتعدى عليها ولو بالاقتراحات والملحوظات. فهنالك من تملأهم شهوة السعي للمسؤولية، ولا يستطيعون أن يعملوا كجنود وكأناس بسطاء. وإذا وجدوا في وضع كان عليهم أن يكونوا فيه جنوداً وأناساً بسطاء تملّكهم الغضب والتأفف. وهذا إذا لم يلجأوا إلى التحريض وزرع "الألغام".
إن هذا الخطّ نقيض للخطّ الفكري الثوري الصحيح في التعامل مع المسؤولية. أي الخطّ الذي ينظر للمسؤولية في مواقع النضال والثورة كطريق ليقدم خدمة أكبر ويضحي أكثر، ويصبح متواضعاً لا يتسلط ولا يتجبر ولا يتكبر، ولا يتمسك بالمسؤولية فيعتبرها شرطاً أساسياً ليناضل، وإذا حرم منها لا يترك العمل والنضال، ولا يتقاعس عن القيام بهذه المهمة أو تلك جندياً وإنساناً بسيطاً. هذا فضلاً عن رفضه أن تكون المسؤولية سبيلاً للمنافع الخاصة والمكاسب والامتيازات.
على أنه من الضروري أن يوضح هنا إن تحمل المسؤولية في النضال والثورة ليست شيئاً سيئاً. وإنما هي أمر لا مفرّ منه ولأمد طويل. ولا يمكن أن يجري العمل الثوري إذا ألغيت المسؤولية. ولكن مسألة كيف ينظر لها وكيف تعامل وما هي الأفكار التي نحملها تجاهها والتي تحكم تصرفاتنا، هي جوهر القضية. ومن ثم هي نقطة الصراع بين الخطّين. وانطلاقاً من هذه المسألة يقوم صراع آخر من أجل أن تعطى المسؤولية لمن يفكرون ويمارسون صحيحاً ويخدمون الشعب. لأن من في موقع المسؤولية يقرر مصير النضال والثورة. هل نتقدم إلى الأمام أم ننتكس ونتراجع ونرتد؟ ولهذا فإن تأكيد الصراع بين الخطّين في معالجة المسؤولية والنظر إليها وإلى الأفكار التي نحملها تجاهها والتي تحكم تصرفاتنا. ينبع من التأكيد على أهمية المواقع المسؤولة وخطورتها. ولا ينبع من مواقع الزهد. بمعنى عدم الاهتمام بالموضوع وكأنه أمر غير ذي بال. وبالمناسبة إن إعلان هذا النوع من الزهد كثيراً ما يكون الوجه الآخر لعملة الاتجاه الخاطئ في السعي إلى المسؤولية. وذلك حين يحاصر، وحين يشدد عليه الخناق، أو حين يتهيأ للوثوب على الفريسة. إن النقيض لهذا الاتجاه هو الخطّ الصحيح الذي لا ينبع من المطامح الفردية والأطماع الخاصة. وإنما ينبع من الحرص الثوري على الثورة وقضية الشعب والوطن، وهذا هو بالضبط الذي يجعل المناضل جندياً قبل أن يكون مسؤولاً. ولا يفقده صفة الجندي حين يصبح مسؤولاً. وإذا حاول البعض إخفاء الاتجاه الخاطئ بادعاء الاتجاه الثاني، فذلك محكوم عليه بالفشل. لأن لكل منهما هويته البيّنة. وهنا يجب أن يلاحظ أن من لا يستطيع أن يكون جندياً حقيقياً في الثورة، لا يستطيع أن يكون مسؤولاً يسير على الطريق الصحيح.
لنقف إلى جانب الخطّ الصحيح ولنمارسه في هذا المجال أيضاً.
لقد برز اتجاه خاطئ عند بعض الأخوة الذين أصبحوا كوادر في مواقع المسؤولية ويقومون بمهمات ذات طبيعة قيادية. هذا الاتجاه هو رفض القيام بالمهمات التي تقوم بها العناصر؛ فمن جهة أن الانضباط لا ينطبق عليها. والنظام هي مسؤولة عنه ولكنها لا تتقيد به. إنها لا تستطيع أن تتقبل الاصطفاف في طابور التدريب، أو التعلم من كوادر بمستواها أو دونها. ولا تعتبر أنها بحاجة إلى زيادة معرفتها إلا على المستويات العالية. أما الأشياء البسيطة التي تجهلها فهي أكبر من أن تقرّ بضرورة تعلمها. وإذا قبلت أن تدخل دورة كوادر أو دورة تدريبية ما، فالدورة يجب أن تكون على مستوى "عالٍ" جداً. أما المقياس لعلو المستوى فهو تناول أشياء لم يسبق لها أن سمعت بها. أما الأشياء الأخرى التي تعتبر أنها تعرفها فتشعر بالضيق إن هي تدربت عليها مرة أخرى. دون أن تلاحظ أن هنالك أشياء عديدة قد سمعت بها أو تدربت عليها ولكن معرفتها بها ظلت معرفة سطحية، ولم تصل إلى حدّ ترجمتها في التطبيق العملي فعلاً. فعلى سبيل المثال: إن الحديث عن ضرورة القتال كمجموعة وما يلزم ذلك من انضباط وقدرة على التناغم في التنفيذ ومن ثم التدرب عليه، تعتبره شيئاً بديهياً تعرفه... ولكن هل هذا صحيح؟ حقاً إنها تستطيع التحدث عن أهمية القتال كمجموعة وعن ضرورة الانضباط ومراعاة العمل المنسق المتناغم. لا شكّ أنها قد سمعت عن ذلك من قبل. ولكن إن هذا كله شيء وتحوله في ممارساتها العملية إلى حقيقة ملموسة شيء آخر. ولهذا فهي لا تدرك حاجتها إلى تعلم هذه المسألة. ومن ثم فإن الشعور بكبرياء المسؤولين يجعلها تعتبر أن ما هو أمامها شيء بديهي ولسوف تضيع وقتها إن هي بذلت مجهوداً في تعلمه والتدرب عليه.
إن هذا الموقف يجب أن يعاد إلى الأصول الفكرية التي يحملها أولئك الكوادر، وأن يخاض الصراع ضدّ الأفكار التي تولد عند الكادر المسؤول مواقف مثل رفض تطبيق الانضباط والتقيد بالنظام على نفسه. أو الشعور بأنه أكبر من أن يصطف على الدور أو أن يقف في الطابور. أو أن يتدرّب على يد كوادر بمستواه أو أدنى منه. أو يرفض أي تدريب إلا إذا كان هذا التدريب يتناول مسائل لم يسمع بها من قبل. ويجب أن تكون هذه المسائل على "مستوى عالٍ" بالمقياس الدارج للكلمة. وهو يرى أن المستوى العالي في التدريب لا يشمل ما يعتبره أشياء بسيطة عرفها ولكنه لم يطبقها فعلاً. أو إن تطبيقه لها أي معرفتها ما زالت عاجزة وبمستوى ضعيف.
إن الصراع الفكري ضدّ مثل هذه الأفكار مسألة ضرورية لكي يصبح الكادر مسؤولاً ثورياً حقيقياً. ولا يمكن أن يكون كذلك إذا شعر أن كبير على القيام بالمهمات الصغيرة أو كبير على التعلم ممن هم دونه. إنه لا يمكن أن يصبح مسؤولاً ولا ثورياً حقيقياً إذا لم يكن متواضعاً ويسعى دائماً إلى التعلم.
إذا قرأ أحدنا هذه العبارة "الصدق والصراحة في التعامل بين الإخوة" يعتبرها مقولة صحيحة، ولا تستحق حتى التذكير بها. إنها بدهية من البديهيات فهل هذا صحيح؟ هنا مرة أخرى نجد أنفسنا أمام القناعات التي نترجمها باللسان والأحاديث ولا نجسدها في حقيقة مسلكنا وعلاقاتنا وممارساتنا. أن يقول المناضل الصدق له أو عليه دون أن يخفي شيئاً، ودون أن يبالغ ودون أن يحرّف الحقيقة، ليست بالصفة البديهية البسيطة. وليست بالشيء الشائع. بل هنالك من يعتقد دون أن يصرح في الغالب بذلك، بأنها صفة السذج والبسطاء، أو صفة المتبتلين المتعبدين، وأنها ليست صفة المناضل الثوري. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن يتحول الإنسان إلى مناضل ثوري طليعي؟ أو بعبارة أخرى كيف يمكن أن يعيد صياغة نفسه ويساعد إخوته الآخرين الذين يعمل معهم لكي يساعدوه في إعادة صياغة نفسه. حقاً أن يكون المناضل صادقاً مع الإخوة الذين يعمل معهم مسألة شاقة تحتاج إلى تكوين فكري صحيح، بل إن هذا الموقف الفكري يعبر عن موقف طبقي. الصدق هنا ليس قيمة تجريدية، إنما هو مسألة سياسية وفكرية. ولا يستطيع تنظيم طليعي أن يقود الثورة، وأن يبني نفسه جيداً، وأن يصحح أخطاءه، وأن يعيد صياغة نفسه، إذا افتقر إلى الصدق والتشرب بروح الصدق على كل المستويات. إن هذه الصفة يجب أن تكون جزءاً من علاقاته الداخلية.
على أن مسألة ترسيخ ممارسة الصدق والصراحة وتحول هذه الممارسة إلى قناعة معينة في عقولنا وفي حياتنا النضالية اليومية بين إخواننا الثوريين تتطلب نضالاً شاقاً ضدّ نقيضها، وذلك على المستوى الفكري من جهة، وعلى مستوى تحضير الظروف التي تساعد على ممارسة هذه الممارسة مثل رفع مستوى الشجاعة والاستعداد لتحمل نتائج أخطائنا حين نكشفها بصدق وصراحة. ويجب أن نقتنع بأننا حين نمارس الصدق والصراحة في علاقاتنا لن نفقد شيئاً غير أخطائنا ونواقصنا وسائر الممارسات الملتوية. هذا وينبغي أن نثق بالإخوة الآخرين وبحبهم وتسامحهم وحرصهم على تصحيح الأخطاء والتخلص من النواقص والممارسات الملتوية. فبدلاً من النفاق والكذب، وصبغ حقيقتنا بالألوان الفاقعة التي تفقد "تألقها" عند الوقوع تحت المحكّ، يجب أن نتعود الصدق والصراحة والنضال الشاقّ لتطوير أنفسنا. وعندئذ تصبح هذه الصفة مصدراً للتقدير والتقييم. أما من الجهة الأخرى فلا بدّ من تكريس التقاليد البعيدة عن القمع والإرهاب، والبعيدة عن روح التشفي والتشهير والابتزاز، لكي يمكن ويصبح من الممكن ممارسة الصدق والصراحة دون وجل ودون خوف من قمع أو إرهاب، ودون تشفٍّ أو تشهير وابتزاز.
علينا أن نناضل من أجل تكريس الخطّ الذي يكون الثوري فيه صادقاً وصريحاً يقول كل ما يفكر فيه، ولا يتعرض للوم إن قال شيئاً خاطئاً. يجب أن يشجع كل ثوري على قول ما في قلبه ولا يحقّ لأحد أن يزجره أو أن يبتزه أو أن يتهكم عليه، أو أن يستخف به أو أن يسقطه من الحساب، أو أن يظهر التأفف والامتعاض منه. وبهذا نستطيع أن نتنفس في جو صحي. والأهم هو أننا سنتعلم جميعاً من التصرف الخاطئ والرأي الخاطئ،تماماً كما يمكن أن نتعلم من التصرف الصحيح والرأي الصحيح. لأن معرفة خطأ مسلك ما، أو معرفة خطأ فكرة ما يشكل بالنسبة إلينا المعرفة الصحيحة التي تفتح أمامنا الطريق من أجل الغوص وراء معرفة المسلك الصحيح والفكرة الصحيحة.
لنكن صادقين صريحين من أجل القيام بالثورة، وانتصار قضية الشعب والوطن. لنصارع الخطّ الخاطئ الآخر، وذلك أيضاً من أجل القيام بالثورة وانتصار قضية الشعب والوطن.
إن الحرب الأهلية التي خاضتها الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية والشعبية اللبنانية لم تكن حرباً تعتمد على القوات المسلحة المتفرغة فحسب، وإنما، وكان هذا طابعها الأغلب، كانت حرباً تعتمد على الجماهير المسلحة... على قوات الميليشيا. وهذا أمر طبيعي بالنسبة لحرب الشعب، خاصة، في المراحل التي لا يكون الطابع الغالب للقوات المسلحة هو طابع المقاتل المتفرغ مثل الجندي.
ولّدت هذه السمة ظاهرة المقاتل الشعبي المدني غير المتفرغ الذي يذهب إلى الجبهة، ويداوم في الكمائن. ولكن لمدة محدودة حيث يتمّ تبديله بمقاتل شعبي مدني غير متفرغ. فيعود الأول إلى بيته ليمارس نشاطه في حيه أو في قريته بما في ذلك الاستمرار في العمل بالكمائن القريبة. بينما يحدث مع بديله الشيء نفسه بعد انتهاء مدة وجوده في الجبهة أو في الكمين بانتظار مجيء بديل له وهكذا. وليعود الدور على الأول وهكذا. إن هذه الصيغة ولدتها تجربة حرب الشعب في لبنان وهي صيغة مناسبة لهذا الطراز من الحرب الأهلية، وذلك إلى حين دخول الحرب إلى مرحلة أخرى تتطلب قوات مسلحة متفرغة أكثر عدداً ولكن حتى في هذه الحالة يجب استمرار الإفادة من المتطوعين.
على أن هذه الصيغة ذات الطابع الشعبي، ومع كل ما تحمله من إيجابيات أهمها إشراك الألوف بالقتال وفي مهمات الكمائن، إلا أنها ولدت داخلها ظاهرة سلبية وهي ظاهرة تأخر البديل، وما ينجم عن ذلك من قلق وانزعاج لدى الأخ الذي انتهت مدة حراسته أو مدة تواجده على إحدى مواقع الجبهة البعيدة عن قريته أو عن مدينته.
إن مسألة تأخر البديل أحياناً عدة ساعات في الكمائن القريبة، وأحياناً عدة أيام في المواقع البعيدة، ترجع لأسباب أهمها ضعف التنظيم وضعف الالتزام والدقة عند الذين جاء دورهم ليكونوا بديلاً في الكمين أو في الموقع. ولهذا لا بدّ من التأكيد على ضرورة رفع المستوى التنظيمي، ورفع مستوى الالتزام والدقة عند المقاتلين غير المتفرغين. وطبعاً إن الجوهر في هذه المسألة يكمن في الوعي وفي الخطّ السياسي، اللذان يقودان التنظيم والالتزام والدقة. ولا شكّ في أن التشديد على معالجة هذه المسألة ضرورة ملحة، مع الإدراك أنها ستكون عملية طويلة، ستتمخض عن نضال شاقّ بين خطّين في معالجتها وفي مواجهتها. لأنها صراع ضدّ اتجاهات الاستهتار والتغيب وعدم الانتظام وعدم الدقة في حفظ المواعيد. وهي اتجاهات وليدة مئات وألوف السنين من الحياة القروية والعشائرية. ومن ثم لا يمكن التغلب عليها إلا عبر أمد طويل من النضال الشاقّ على مستوى الوعي والخطّ السياسي أولاً. ومن ثم على المستوى التنظيمي.
أما الظاهرة الأخرى فهي تولد القلق والانزعاج، وأحياناً التفكير بترك الموقع قبل أن يأتي البديل، فهي أيضاً مسألة هامة يجب معالجتها. هذا ولا يمكن ربط معالجتها بمعالجة انتظام مجيء البديل في الوقت المحدد، رغم أن هذه تحلّ المسألة تلقائياً. ولكن ما دام هذا الحلّ هو عملية طويلة وتحتاج لنضال شاقّ فإن هذا لا يعني الاستسلام أمام الظاهرة الأخرى المتولدة عنها وهي القلق والانزعاج والتفكير بترك الموقع. أي هنا أيضاً لا بدّ من خوض الصراع الفكري ضدّ هذا الاتجاه وذلك بتكريس رفع مستوى التحمل والصبر والإدراك المسبق بأن التأخير مسألة محتملة إن لم يكن للأسباب التي تحدثنا عنها فربما لأسباب قاهرة أخرى. وليتذكر الكثيرون ممن يقلقون وينزعجون بسبب التأخر أنهم هم كثيراً ما تأخروا بدورهم. طبعاً إن هذا لا يعني عدم الإسهام في النقد وفي مكافحة ظاهرة تأخر البديل. ولكن المطلوب هو التخلص من ظاهرة القلق والانزعاج والتفكير بترك الموقع. وأن نتشرب مكان ذلك بروح الصبر والتحمل والاستعداد لمواجهة التأخير الذي لا بدّ من أن نتوقعه ضمن ظروف الوضع في بلادنا. ولنتذكر أن القلق والانزعاج في هذه الحالة لا يفعلان أكثر من الإضرار بنفسية المناضل وقد يوديان به إلى اليأس من الاستمرار بالنضال. وعندما يقودان إلى ترك الموقع فهذا يعني احتمال تسليمه للعدو لقمة سائغة. وبالمناسبة لا بدّ من مواجهة تلك الأسباب التي تثير القلق والانزعاج والتفكير بترك الموقع، وأهمها القلق على الأهل الذين سيقلقون إذا تأخر ويتصورون أنه استشهد أو جرح. إن هذه المسألة يجب أن تعالج مع الأهل أيضاً بحيث نقنعهم ونعودهم على احتمالات التأخر وذلك لأسباب قاهرة. منها ما يتعلق بالبديل ومنها ما يتعلق بظروف أخرى. وإنه من غير الممكن في ظروف بلادنا وفي ظروف الحرب، إذا شئنا أن نواصل النضال ألا يحدث مثل هذا التأخير. ومن ثم لا بدّ من إقناع الأهل وتعويدهم عليه. كما يجب أن نقنعهم بأن التأخير وانعدام وصول الأخبار لا يعني أن ابنهم قد استشهد أو جرح، لأن انقطاع الأخبار في أغلب الأحيان إن لم يكن في كل الأحيان يعني أن ابنهم حي وعلى أحسن ما يرام. فقد علّمتنا التجربة أن خبر الاستشهاد أو خبر سقوط المناضل جريحا يأتيان بأسرع من البرق.
إن تشريب المناضل غير المتفرغ بروح الاحتمال والصبر والنفس الطويل والبقاء في الموقع، في معالجة تأخر بديلة مسألة فكرية. يجب أن نقتنع بها ونتبناها ونتعودها ونصارع ضدّ نقيضها القلق والانزعاج وترك الموقع.
لقد برز اتجاه خاطئ لدى بعض المناضلين حين يصابون في المعارك أو يتعرضون لمرض. وعبّر هذا الاتجاه عن نفسه بالضرب عرض الحائط بتعليمات الطبيب. ونهج طريق معاندة الجرح أو المرض بعدم الخلود للراحة. وعدم اتباع العلاج المطلوب. وذلك تحت شعار عدم التعطل عن النضال وضرورة العودة إلى الممارسة مهما كلف الثمن، وبغضّ عن حصول الشفاء أو عدم حصوله. وبغضّ النظر عن احتمال نشوء المضاعفات التي تؤدي إلى تفاقم العطب. إن هذا الاتجاه الذي ينبع من قدرة على الاحتمال ومغالبة النفس، ومن حرارة لمواصلة النضال وعدم التعطل يظلّ اتجاهاً خاطئاً رغم هذا المنبع ولا يجوز أن يشجع عليه. إن الاحتمال ومغالبة النفس والحماسة لمواصلة النضال صفات أساسية يجب أن تتوفر في المناضل معافى الصحة كان أو جريحاً أو مريضاً. ولكنها في كل الأحوال لا يجوز أن تمارس ضدّ القوانين الموضوعية، وإنما معها وباتجاهها. لأن معاندة القوانين الموضوعية هي كضرب الرأس في الحائط تحطم الرأس ولا تهدّ الحائط. وهذا ما يحدث عندما لا تراعى القوانين التي تؤدي إلى شفاء الجريح أو المريض.
حقاً قد يبالغ الأطباء بالحرص أحياناً. وقد تحدث حالات تخالف تعليمات الطبيب ولا تنتج عنها مضاعفات ما. إلا أن ذلك ليس قانونا. فالجرّة لا تسلم من الكسر كل مرة، عندما تسقط مرّة على الأرض لا تنكسر. بل إنها إذا لم تنكسر ذات مرة فقد حدث ذلك ضمن ظروف محددة تدخل ضمن قانون من القوانين. فلا يجب التوهم أن تلك الظروف المحددة هي دائماً الظروف التي ترافق سقوط الجرة على الأرض.
إن اتجاه المناضل الذي يضرب عرض الحائط بتعليمات الطبيب وبمقتضيات العلاج والشفاء، ينمّ عن اتجاه فكري خاطئ يجب أن يثقف بنقيضه. وأن لا يلقى ترحيباً وتشجيعاً وإعجاباً. وينبغي لمن يمارسه أن يبحث عن جذور الأفكار الخاطئة التي تدفع إلى مثل هذه الممارسة. هنا أيضاً لا بدّ من خوض الصراع بين الخطّين.
ولكن من جهة ثانية هنالك ظاهرة أخرى تبدو عند البعض، وهي الوسوسة على الصحة والمبالغة في اتقاء المرض البسيط ومعالجة الجراح الخفيفة، فتركبه الوساوس فيغدو قعيد الفراش لا يبرحه وقتاً طويلاً، أو يعطي لنفسه إجازة مفتوحة عن العمل النضالي. إن هذا الاتجاه ينبع من أفكار خاطئة في النظر إلى ذاته وحياته، ويعامل القوانين الموضوعية معاملة غير علمية. وينبغي لمن يمارسه أن يبحث عن جذور تلك الأفكار الخاطئة التي تدفع إلى مثل هذه الممارسة. هنا أيضاً لا بدّ من الصراع بين الخطّين. إن معرفة قوانين الظاهرة ومعرفة كيفية معالجتها معالجة علمية صحيحة والعمل وفق هذه المعرفة، بالنسبة إلى المناضلين، هي مسألة خطّ فكري صحيح ومنهج صحيح ولا بدّ من خوض الصراع لترسيخها.
إن مسألة نقل الحدث كما هو دون مبالغة ودون زيادة أو نقص، ودون إضافات غريبة تشكل موقفاً فكرياً. تماماً كما أن أعمال المبالغة في نقل الحدث من خلال الزيادة أو النقص حسب رغباتنا يشكل موقفاً فكرياً وليست مجرد عادة نتعودها في هذا الأخ أو ذاك فنأخذ منها موقفاً متسامحاً نشربه بالمزاح والضحك.
يجب أن ندرك بفهم عميق أن نقل الحدث كما هو دون إضافات غريبة عليه ودون مبالغة به له أبعاد تتعدى نقل ذلك الحدث بحدّ ذاته. وتصل هذه الأبعاد إلى جوهر العقلية والأفكار التي يحملها ذلك الأخ والتي تقود ممارسته تماماً. كما أن نقل الحدث مشرباً بالمبالغة وبإضافات غريبة نختلقها، له أبعاد تتعدى نقل ذلك الحدث بحدّ ذاته. ولا بدّ من أن نذهب بتلك الأبعاد إلى إدراك أنها تكشف عن جوهر العقلية والأفكار التي يحملها ذلك الأخ والتي تقود ممارساته.
علينا أن نسأل: عقلية من هي عقلية الذين يبالغون ويتبهورون؟ وعقلية من هي الذين يحرصون على الحقيقة فلا يبالغون ولا يتبهورون؟ إن الإجابة على هذا السؤال تسهل علينا أن نرى جوهر الصراع بين هذين الخطّين في هذا المضمار.
المبالغة في نقل الحدث، زيادة بحقّ أنفسنا أو إنقاصاً بحق غيرنا تضرّ بقضية الشعب والثورة. لأنه لا بدّ من أن يترتب حكم وقرار على ما نقل عن ذلك الحدث. لقد علمتنا تجربتنا أن القرار الصحيح والحكم الصحيح لا يمكن أن يبنيا على المبالغة وعدم الدقة. هذا ويمكن أن نتصور ما يحدث بسلسلة قراراتنا حين تصبح المبالغة والإضافات الغريبة نهجاً. قد يقال يجب التفريق بين الحدث الصغير والحدث الكبير، في هذا المجال، حيث يصحّ التسامح فيما يتعلق بالحدث الصغير ولا يصحّ بالنسبة إلى الحدث الكبير فهل هذا صحيح؟ وهل هو ممكن؟ أم هو نهج وعقلية؟ ومن ثم فإن كيفية معالجة الحدث الصغير والأحداث الصغيرة - تقود إلى معالجة الحدث الكبير. وهنا ينبغي لنا أن نلاحظ أن اكتشاف الخلل في نقل الحدث الصغير طريق لمعرفة جوهر العقلية لأنها تكون أمام الحدث الصغير أقل مكراً واهتماماً.
إن نقل الحدث كما هو، وإرساء هذا النهج كتقليد في صفوفنا وفي العلاقات بين الثوار وأبناء الحركة الواحدة، تشكل عاملاً مهماً من عوامل اتخاذ القرارات الصائبة فضلاً عن تعزيز الثقة المتبادلة بين الأخوة.
فالصراع بين الخطّين هنا هو صراع بين فكرين... بين عقليتين.
يجيء حمل السلاح كاستمرار للنضال السياسي. وهو يعبر عن الدخول في مرحلة أعلى من مراحل التناقض بين الشعب وبين العدو. أي مرحلة الحرب. ولهذا فإن السلاح هو لسحق العدو ولحماية الشعب. وليس للاستعراضات والتشبيح. وليس لإرهاب الشعب وتخويفه. ولا يجوز أن يتحول بيد حامله من المناضلين إلى ادعاء المشاركة في القتال دون مشاركة فعلية في القتال.
يجب أن يلاحظ هنا فوراً بروز خطّين أفرزتهما تجربتنا في لبنان فيما يتعلق بحمل السلاح؛ خطّ اتجه لاستخدام السلاح للمباهاة والتظاهر بالاشتراك في القتال، وكان من إفرازاته التظاهر بالسلاح والقيام بالاستعراضات أمام الجماهير، وكان من إفرازاته، وهو أخطرها، استخدام السلاح لتخويف الجماهير وفرض "الهيبة عليها"، وأحياناً للابتزاز وفرض الخوة. أما الخطّ الآخر فلم يمارس في حملة السلاح هذه المظاهر كلها، وإنما حمل السلاح للقتال ضدّ العدو، لحماية الشعب، والدفاع عن قضيته العادلة، وسعى لكسب ثقة الشعب من خلال القتال الفعلي ضدّ العدو، ومن خلال العمل الصامت دون مباهاة أو تفاخر أو استعراضات. وبقي يشعر أنه خادم متواضع للشعب. بل لقد ازداد تواضعاً بعد حمله السلاح. ولهذا كان الشعار: (لنكن أشداء على الأعداء، ورحماء فيما بيننا، وخدّاماً للشعب).
إن الخطّ الأول يرجع في جذوره إلى عقلية الأسياد نفسها المشربة بعقلية القبضايات الذين يستأسدون على العزل من الجماهير. وكانوا دائماً يخافون من السلطة ويحتمون بها. وعندما امتلكوا القوة التي منحتها لهم الجماهير لأنهم أعلنوا وقوفهم إلى جانب قضيتها العادلة، نسوا هذه الحقيقة وأصبحوا يتصرفون مع الشعب تصرف الطغاة والعتاة. وقد غرّهم أن الشعب قد يمدّ لهم الحبل ما دام يخوض الصراع الضاري ضدّ العدو. لكنه يعود فيجعل أسلحتهم بأيديهم قطعاً من خشب نخره السوس، وحديداً أكله الصدأ. إن الثوريين الحقيقيين يجب أن يراعوا هذه الحقيقة دائماً، وهي أن يكونوا أشداء على العدو لا على الشعب. وأن يدركوا أن القوة الحقيقية إنما هي قوة الشعب. ولا قيمة لسلاح الثوار إذا لم يدعمه الشعب. ويشعر أنه سلاح ضدّ الأعداء وليس ضدّه. ولهذا على الثوار أن يكونوا متواضعين مع الشعب. ولا يعاملونه من مواقع القوة، وإنما من مواقع الحبّ والأخوة والرغبة في خدمته. بل يسعون السعي الحقيقي لخدمته وإشعاره بالأمان وهو يتعامل مع الثوار الذين يحملون البنادق.
إن الصراع بين هذين الخطّين هو صراع سياسي وصراع فكري ينبعان من مواقع طبقية مختلفة، فلنتمسك بالخطّ الصحيح ونحن نحمل السلاح.
نظرة إلى وسائط النقل المختلفة التي يستخدمها الثوار وما آلت إليه من مصير، بما في ذلك الوسائط الجديدة التي لم يمضِ عليها عام في الخدمة، تجعلنا نصدم من كثرة ما لحق بها من أذى. هذا دون أن يجري الحديث عن العدد الكبير من الوسائط التي أصبحت معطلة تماماً، ولم تعد تتحرك في الشوارع.
هل يمكن اعتبار هذه الظاهرة عادية ومحتومة، بسبب شدة النشاط، أم أنها وصلت حداً من التفشي يتعدى كثيراً تلك النسبة التي يمكن اعتبارها عادية ومحتومة؟ لا يستطيع أحد الادعاء بأن السبب في هذه الظاهرة الشائعة، يعود لكثرة النشاط. إنها ثمرة من ثمرات عقلية الإهمال واللامبالاة والإسراف في استخدام ممتلكات الثورة. فما دامت هذه السيارة ليست ملكاً شخصياً لي فهي لا تستحق العناية الفائقة. ولا تستحق الحرص عليها. وإذا أصيبت بضربة ما فليس من الضروري السعي لإصلاحها ما دامت قادرة على التحرك. وذلك إلى أن تأتي ضربة أخرى أو تتفاقم معضلتها لتلقى في الزاوية، وتصبح حطاماً غير صالحة حتى للإصلاح. ويبدأ البحث عن غيرها. إن هذه العقلية لا تقتصر على وسائط النقل، لأنها موجودة على هذه الصورة بالنسبة لكل ما هو في أيدينا. كيف نتعامل مع التموين؟ كيف نتعامل مع الثياب والأحذية؟ كيف نتعامل مع المناظير وأثاث المكاتب والمهاجع؟ وكثيراً ما تمتد هذه العقلية حتى إلى إهمال العناية بالسلاح عموماً، والسلاح المتوسط والثقيل خصوصاً.
هنا يجب أن يتصارع خطّان فكريان: الخطّ الذي يثقف ويمارس باتجاه ضرورة المحافظة على ما في أيدينا من أشياء ملك الشعب والثورة، والحرص عليها والاقتصاد باستعمالها والعناية بها وإصلاحها باستمرار وجعلها في أحسن الحالات، حتى ولو تسلمناها رثّة أو مخربة. وذلك ضمن النضال في نقد اتجاهات الإهمال واللامبالاة والإسراف في التعامل مع الأشياء والحاجيات التي تخصّ العمل الثوري.
وإذا ما خضنا صراعاً ناجحاً في هذا المجال فلسوف تكون النتيجة مضاعفة إمكاناتنا المادية. فضلاً عن أهمية ذلك بالنسبة لإعادة صياغة أنفسنا وتشريبها بروح المسؤولية تجاه المحافظة على الملكية العامة للشعب والثورة التي تترجم نفسها الآن على شكل الأشياء والحاجيات التي تخصّ العمل الثوري.
4 - التغلّب على الصعوبات
إن طريق النضال مليء بالصعوبات، ولا يمكن إحراز النصر على العدو إذا لم نصمد في وجه الصعوبات، ولم نبذل الجهود الشاقة للتغلب على الصعوبات.
وتشمل كلمة الصعوبات هذه كل الظروف غير المؤاتية التي تواجهنا على طريق تحقيق أهدافنا، سواء الأهداف الجزئية أو الهدف الكلي. وهي تشمل مقاومة العدو لنا أو تفوقه علينا، وتشمل ما نعانيه من نواقص وما يمكن أن ينجم عما نرتكبه من أخطاء، وتشمل التعب والجوع والعطش والمسافات الطويلة والبرد والحرّ. وهي تشمل أيضاً الجبال العالية والوديان والأحراج، وتشمل أيضاً ما ينشأ من انحرافات ومؤامرات واتجاهات خاطئة وتخريب وطعن في الظهر، وتشمل أيضاً وأيضا النكسات والكوارث وسائر الضربات التي يمكن أن نتلقاها، وما إلى ذلك من حالات.
إن التغلب على أية صعوبة من هذه الصعوبات يحتاج إلى توفر شروط محددة. إن بعض هذه الشروط ذو طبيعة موضوعية وبعضها ذو طبيعة ذاتية. وإذا كان الجانب الذاتي يتطلب الخطّ السياسي الصحيح والخطّ الفكري الصحيح - والمقصود بالخطّ الفكري المفاهيم والأفكار التي نحملها - فإن النقطة التي سنركز عليها هنا هي أهمية التعبئة الفكرية والتشبع بروح التصميم للتغلب على الصعوبات. إن تكوين الإرادة الحديدية المتجهة للتغلب على الصعوبات، والمصممة على التحمل، والمشبعة بالصمود والإصرار والنفس الطويل هي التي تجعلنا قادرين على توفير الشروط الضرورية الأخرى، على متابعة السير على طريق النضال المليء بالصعوبات.
أمام كل صعوبة من الصعوبات وخاصة الصعوبات الأشد ينشأ الصراع بين خطّ التصميم على الصمود في وجه الصعوبات، والإصرار على التغلب عليه بالنضال الشاقّ، وبين خطّ الانهيار والارتباك والتراجع أمام تلك الصعوبات.
هنا يجب أن يلاحظ بأن خطّ الانهيار والارتباك والتراجع أمام الصعوبات كثيراً ما يعبر عن نفسه بأشكال شديدة المكر لكي يخبئ عدم صموده وافتقاره للإصرار على مواجهة الصعوبات هذه؛ لأن مسألة الصمود ومواجهة الصعوبات تمسّ جوانب تتعلق بالشجاعة والتحمل والرجولة والتضحية. وهي قيم ليس من السهل الإقرار بالافتقار لها. ومن هنا يصار إلى المكر لإخفاء الانهيار والارتباك والتراجع. فتارة تثار مسألة عدم توفر الإمكانات المادية، ويصار إلى تضخيم النواقص وإبراز أهمية توفر الإمكانات المادية، أو التقنية التي يكون من غير الممكن توفيرها. وأحياناً تثار مسألة القادة ونواياهم أو قدراتهم، وأحياناً أخرى تثار مسائل سياسية أو تقدم اقتراحات أخرى لاستبدال مواجهة الصعوبة المعنية بمواجهة صعوبة أشدّ من أجل التعجيز. إن اللجوء إلى مثل هذا المكر يستغل الحقّ المشروع القاضي بضرورة توفير الإمكانات المادية والتقنية المعينة. كما يفيد من حقّ انتقاد القادة أو تقديم الاقتراحات البديلة، أو مناقشة الخطّ السياسي. ولهذا لا بدّ دوماً من التفريق بين الذين يمارسون هذا الحقّ من منطلقات إيجابية، وبين الذين يختبئون وراء هذا الحقّ لتخبئة انهيارهم وارتباكهم وتراجعهم أمام الصعوبات. هذا ولقد علمتنا تجربتنا أن معالجة هذا المكر لا تكون بحرمانه من هذا الحقّ، وإنما بإعطائه الفرصة كاملة لممارسته حتى النهاية، ومناقشته بنفس طويل، وبالمحافظة على الروح الأخوية. وذلك لكي لا يضرب ذلك الحقّ، ويؤخذ أصحاب المنطلقات الإيجابية بجريرة المتراجعين أمام الصعوبات. ولكي لا يعطى المتراجعون سلاحاً آخر وهو التذرع بوجود كبت وإرهاب وطغيان. وأخيراً لكي يمدّ الجبل إلى آخر مداه، الأمر الذي يكشفهم ويكشف أوراقهم الحقيقية. لأن إثارة الأسباب غير الحقيقية تجعل صاحبها يقف على أرجل خشبية.
على أن الحسم في الصراع بين هذين الخطّين يكمن في المزيد من التعبئة الفكرية، والتشبع بروح التصميم على قهر الصعوبات. إذن فلنتغلب على جميع الصعوبات حتى نحقق النصر النهائي.
نذهب حيث المهمات أصعب
كثيرة هي الأصعدة التي يناضل فيها الثوريون في الثورة وفي النضال عموماً. ومتفاوتة تلك الأصعدة من حيث صعوبتها وخطورتها. ولهذا لا بدّ من أن ينشأ صراع بين خطّين بالنسبة للمجموعات وللأفراد. أحدهما يجنح إلى اختيار العمل في الأصعدة الأقل خطورة والأقل صعوبة، ويلقي على غيره مهمة العمل في الأصعدة الأكثر خطورة والأشدّ صعوبة. ويظهر هذا الاتجاه حتى ضمن الصعيد الواحد حيث يلقى على الآخرين المهمات الأصعب والأعقد والتي تحتاج إلى مشقة أكبر. طبعاً هذا دون أن يفرّط في سعيه الحثيث للتمسك بالمسؤولية ولعب "دور قيادي". ودون أن يتخلى عن قطف ثمار الشهرة وادعاء الانتصارات.
أما الخطّ الثاني فهو الاتجاه الذي يمثله المناضل الثوري الجيد، أو المجموعة الطليعية الأفضل، حيث يختار العمل في الأصعدة الأكثر صعوبة والأشدّ خطراً ما دامت الثورة تواجه مهمات في تلك الأصعدة. هذا ولا يخطر بباله أن يسأل أو أن يرعرع هذا السؤال في نفسه إذا وسوس في صدره: لماذا أذهب أنا أو نذهب نحن ولا يذهب غيرنا؟ ويتجلى هذا النمط من التفكير عندما يلقى المناضل الجيّد على نفسه المهمات الأصعب والأعقد والتي تحتاج إلى مشقة أكبر. وإن من يحمل مثل هذه الأفكار حقيقة لا يسعى للمسؤولية ولعب "دور قيادي" فهو يمسك بالمسؤولية ليضحي من خلالها أكثر ويلعب دوراً قيادياً ليقدم مجهودات أكبر. أما الشهرة فلا يريدها. وإذا علقت به فتأتيه بلا قصد وبدون أن يسعى وراءها، ولا تصبح قيداً في عنقه ولا إكليلاً من غار على رأسه. أما الانتصارات فهي من صنع المجموعة ومن صنع الشعب.
إن تبني هذا الموقف الفكري واتباع هذا الخطّ يشكل علامة مميزة من علامات المناضل الممتاز. وإذا كان لا بدّ من أن يتولى مناضلون ممتازون العمل في الأصعدة الأقل خطورة والأقل صعوبة، فهم يكونون هنالك ليس بطلب منهم، وإنما لأن الثورة وضعتهم في تلك المواقع. غير أنهم يكونون دائماً على استعداد صادق للانتقال إلى حيث يكون العمل أكثر صعوبة، وأشدّ خطورة.
الصراع بين هذين الخطّين الفكريين أمر حتمي على مستوى الفرد وعلى مستوى المجموعة ولا بدّ من نضال مرير من أجل حسم الصراع لمصلحة الخطّ الثوري الحقيقي.
نعم ما دامت هنالك أصعدة لعمل الثورة أكثر صعوبة وأشدّ خطراً فلماذا يذهب هو وهم وليس أنا ونحن. ليكن هذا هو خطّنا الذي نتبناه ونعمل له.
ثمة حالات برزت في صفوف الثوار أثناء تكليفهم القيام في مهمات معينة. وهي ظاهرة كثرة التطلبات عند تكليف أحد الأخوة أو مجموعة بالتحرك للقيام بمهمة محددة. وتعبر كثرة التطلبات هذه عن نفسها بسرد قائمة طويلة من اللوازم والحاجيات المطلوب توفيرها قبل القيام بالمهمة ومن أجل القيام بها.
إن طموح المقاتل الثوري أن يكون مجهّزاً أحسن تجهيز، وأن تتوفر له الإمكانات المطلوبة للقيام بمهماته، يشكل طموحاً مشروعاً. إلا أن تحول هذا الطموح إلى داء يقعد المقاتل عن العمل إذا لم يتحقق بكامله أو بالجزء الأكبر منه، هو ما يجب رفضه ومقاومته كاتجاه خاطئ ومضرّ. لأنه في تلك الحال يجعل المقاتل كثير التبرم من فقدان الحاجيات ويثبط من عزيمته على النضال في الظروف الصعبة وضمن الإمكانات المحدودة.
القاعدة التي يجب تثبيتها مع الإبقاء على الطموح الدائم لتطوير ما بأيدينا من إمكانات وزيادتها هي: "أن نقاتل ونتحرك بما هو متوفر بأيدينا". وهنا علينا أن نسعى لتعويض النواقص بالتشديد على تطوير المزايا الأخرى عندنا مثل المعنويات، اليقظة، وضع الخطة الأنسب للقيام بالمهام، التنفيذ المبدع، رفع مستوى التعاون الجماعي والتناغم، مضاعفة الجهد والنشاطية إلخ...
وقد يقال ألا يجب أن نطلب؟ طبعاً لا بدّ من أن تطلب الضرورات. ولكن ثمة خطّين في ممارسة هذه المسألة إحداهما يحول طلبه إلى شكل من أشكال الإلحاح المذل ويتحرك بصورة فوضوية مريضة في طرح تطلباته. وثانيهما يقدم الطلب بصورة مركزة منظمة ويكون قادراً على استيعاب عدم تلبية طلبه. ويمضي لتنفيذ المهمة بما هو متوفر بين يديه.
إن تبني الخطّ الصحيح في معالجة هذه النواقص لا يعني أن من الممكن تنفيذ أية مهمة بما هو متوفر بأيدينا. وإنما يمكن تنفيذ أية مهمة إذا توفر الحدّ الأدنى من الشروط الضرورية بين أيدينا. أما من الجهة الأخرى فسيظل تقرير ذلك بناء على المهمة المحددة والشروط الضرورية المادية بحدّها الأدنى أي تقرير صحة الموقف تبعاً للوضع الملموس في كل حالة. ولكن المهم هنا اتباع الخطّ الصحيح في التشرب بروح العمل بما هو متوفر بأيدينا وفي مقاومة مرض كثرة التطلبات.
إذن لا بدّ من الصراع بين هذين الخطّين. ويجب أن ينتصر فينا الخطّ الصحيح.
من أشدّ التجارب التي يمرّ بها المناضلون الثوريون هي مواجهتهم سقوط الشهداء بين صفوفهم، إن فقدان أخوة مناضلين أحباء على قلوبنا يترك آثاراً شديدة الوطأة على إخوانهم الذين ناضلوا وإياهم شهوراً أو سنوات. حيث تكون قد نسجت بينهم علاقات نضالية أخوية مليئة بمشاعر الحبّ والاحترام، والإعجاب، وشحنت بذكريات كثيرة لنضالات كثيرة مشتركة، وواجهوا مواجهة واحدة السراء والضراء. فاللحظات، والساعات، والأيام القريبة من حادثة فقدان الأخوة تجعل كل واحد فينا يمرّ في حالة من عدم التصديق بأن الموت يستطيع أن يخطف ذلك المناضل أو أولئك المناضلين الذين كانوا للحظات مضت ركناً من أركان النضال، يتدفقون حيوية ونشاطاً وعطاء.
إن سقوط الشهداء يملأ قلوب إخوانهم الأحباء بالحزن الشديد ويفتح فيها جراحاً لا تندمل، ويلحق بهم خسارة يجعلهم يشعرون معها بأن ركناً من أركانها قد غيبه الثرى.
كل هذا يحدث، وهو أمر طبيعي وعادل ولا مفرّ منه. لأنه من غير الممكن أن يخاض النضال وأن تنتصر الثورة بدون تقديم مثل هذه التضحيات الغالية. كذلك من غير الممكن ألا يجتاح المناضلون والشعب الحزن عليهم ومعه الشعور بالخسارة الجسيمة. ولكن تجربتنا علمتنا أيضاً بأن هنالك خطّين اثنين في مواجهة الاستشهاد. بل هنالك خطّان فكريان في كيف نحزن وكيف نشعر بالخسارة، وكيف ننظر إلى الحدث، وأي طريق نسلك بعده.
هنالك من يحمل حزنه اليأس والخوف والنظرة السوداوية المتشائمة. ويتحول شعوره بالخسارة إلى إحساس بأن النهاية قد اقتربت، وبأن الخسارة لن تعوض، وبأن الأمور تسير إلى الأسوأ. وقد يتولد عن كل ذلك تفكير بالهروب وإنقاذ جلده، وبعدم الاستعداد للتضحية. وربما همس بينه وبين نفسه ماذا يكسب إذا انتصرت الثورة وخسر حياته. أو ماذا يكسب لو انتكست الثورة بعد كل هذه التضحيات، إنه يكون قد خسر حياته حتى بلا ثمن!
إن هذا الخطّ في التفكير نقيض الخطّ الثوري الصحيح في التفكير حيال مواجهة الاستشهاد. ويجب أن نناضل ضدّه ونعيد صياغة أفكارنا بحيث نتسلح دائماً بالخطّ الفكري الثوري الذي يحمل حزنه الأمل والشجاعة والنظرة المتفائلة الواثقة من انتصار الثورة وانتصار قضية الشعب. فلا يرى في الاستشهاد بأن نهايتنا قد اقتربت، وأنها خسارة لن تعوض، وأن الأمور تسير إلى الأسوأ. بل على العكس إن إقدام المناضلين الشجعان وسقوط الشهداء من بينهم يشكل مؤشراً على نهوض الشعب، واقتراب نهاية أعداء الشعب. أما بالنسبة للخسارة نفسها فيجب أن تكون هنالك دائماً ثقة بالشعب وبقدرته على أن ينجب المناضلين الذين يعوضون الخسارة. ويجب أن تبقى مسألة انتصار الثورة هي القضية المركزية التي لا تعادلها حياة أي فرد فينا، أو مجموعة من الأفراد بل حياة المئات والألوف، وعند الضرورة حياة مئات الألوف والملايين. ومن ثم فإن الشهداء الذين يسقطون في ظروف احتمال انتكاسة الثورة فلن تكون حياتهم قد ذهبت سدى، إنها لبنات لنهوض الثورة من جديد، وتحقيق انتصارها الأكيد.
إن كل حزن على الشهداء يتحول إلى يأس وخوف وتراجع يشكل طعنة في ظهورهم وهي أشدّ قسوة وخطراً من رصاص العدو الذي أودى بحياتهم. لأنه يتخلى عن الطريق الذي استشهدوا من أجله. ولكن هذا الخطّ لا يمكن أن يكون خطّ الشعب فالشعب وأبناؤه الحقيقيون يكافئون الشهداء بمواصلة طريقهم، وتحقيق الانتصار للقضية التي قدموا حياتهم في سبيلها. إذن لنرفع راية شهدائنا عالياً. شهداؤنا الذين سقطوا من أجل قضية الثورة والشعب والوطن. ولنواصل طريقهم حتى النصر ولنحول حزننا عليهم إلى عزيمة لا تلين. ونلملم جراح قلوبنا بفقدانهم بمزيد من الحبّ للشعب والتمسك بقضيته. ولنعوض الخسارة عن طريق رفع وتيرة نشاطنا وزيادة جرأتنا وتطوير قدراتنا، والمزيد من الصدق في إعادة صياغة أنفسنا بالأفكار الثورية الصحيحة.
فلنرفع راية الثورة العظيمة ونحن نرفع فوق الأكف توابيت شهدائنا الأحباء.
11 من الزوار الآن
914464 مشتركو المجلة شكرا